عاصم بكرى
ولاية العقل أم ولاية الفقيه يا مولانا؟!
دعونا نقر أولاً بأن الولاية لا تعنى بالضرورة أن يكون الولى هو الرئيس أو الملك أو الإمبراطور... إلخ، وإنما تعنى من صار له نفس التأثير والقدرة والتحكم فى شئون الناس، ولا شك أن الذى فى يده مقاليد الحلال والحرام قد أوتى أعظم ولاية وأشد رئاسة وأقوى ملك، إنه صار محدداً لمصائر الناس فى الحياة الدنيا والآخرة، بل إن فقيه إيران الذى أصبحت له الولاية الظاهرة بعد الولاية الباطنة اقتنصها واستحقها من هذا المنطلق؛ أنه ومؤسسته فى أيديهم مقاليد الحلال والحرام، ووفق آرائهم وأقوالهم، وربما أهوائهم وأمزجتهم، تتحدد القوانين والأنظمة بل والأمزجة لجموع الجماهير، إذن الذين يصرون على أن يمنحوا مؤسسات وُصفت بإنها «مؤسسات دينية» سلطة عليا فهم بالأحرى يقرون فى حياتنا مبدأ ومنهج وحقيقة «ولاية الفقيه».
الأزهر يحاكم من سماهم «أصحاب الفتاوى الشاذة»، وشيخ الأزهر يدعو للحجر عليهم على غرار أحكام المحكمة بالحجر على سفيه يبدد ماله وأملاكه، بل إن الدكتور «الطيب» يزيد قائلاً بغير تؤدة ولا طيبة: إن الدستور والقانون خوّلا لهيئة كبار العلماء البت فى القضايا الشرعية التى قد تختلف فيها دار الإفتاء مع مجمع البحوث (جميل جداً، جميعهم أخذوا الناس والشعوب والأمم وسلموهم تسليم مفتاح كما يقول القائلون)، ثم يعود الإمام ليضيف أنه «لا يجوز لمن يتصدى للإفتاء أن يضحى بالثوابت والمسلّمات تحت ضغط الواقع» مع مخالفة هذا لبديهيات علوم الفقه فيما نعلم والتى اعتنت واعتبرت بالعرف والواقع أيما عناية وأيما اعتبار، هذا طبعاً مع عدم الاتفاق ولا الاجتماع على ما سماه بالثوابت والبديهيات، وعاد وحذر الإمام من «أن يستقى المسلم الحكم الشرعى باستفتاء قلبه»، يعنى بمنتهى الصراحة يحذر من استخدام العقل ومن الاحتكام إلى الضمير، بل ينهى عن العمل وفقاً لهذا الفقيه الأكبر (العقل) الذى اعتبره المولى عز وجل أعظم مخلوق خُلق، ووضعه فى رأس عباده البشر وبعدها علمهم الأسماء كلها ليعيها ويستوعبها هذا العقل، ثم دعا الملائكة للسجود لهم، هذا لو اتفقنا على أن آدم رمز للبشر وممثل للهيئة الإنسانية فى هذا الموقف البديع، ولم يكن بطبيعة الأمر يشرح موقف آدم الشخص وحده، وحذر مولانا (عفواً مولاهم) كذلك من «الخلط بين التيسير الوارد فى القرآن والسنّة الذى لا يرى بأساً من أن يأخذ به المسلم وبين الغلوّ فى التيسير الذى ربما يوجد فيما سماه بالفتاوى والآراء الشاذة»، وأسأل دائماً وأتساءل: الشاذة بالنسبة لمن؟ بالنسبة لشيخ الأزهر؟ أم بالنسبة لشيوخ الجمعية الشرعية؟ أم بالنسبة لشيوخ الإخوان أو السلفيين؟ أم بالنسبة لهيئة كبار العلماء، أم بالنسبة للاتحاد العالمى للمسلمين بقيادة القرضاوى؟ أم بالنسبة للتكفير والهجرة؟ أم بالنسبة للقطبيين؟ أم بالنسبة للجماعة الإسلامية؟ أم بالنسبة للقاعدة؟ أم بالنسبة لداعش؟ أم بالنسبة لمؤسسة أو جماعة واحدة من هؤلاء؟ أم بالنسبة لما اجتمعوا عليه؟ وهل ما اجتمع عليه أمثال هؤلاء أو بعضهم أو معظمهم أو من كانت لديه ولاية الفقيه منهم -فى عصور مضت- ثبتت صحته وتأكدنا من نجاعته فى الحلول الإنسانية والاجتماعية، أم كشفت الأيام عن أن هذا الذى اجتمعوا علىه هو الشاذ، بينما ما أكدوا هم شذوذه كان أكثر الآراء صواباً وحكمة وعدلاً وإنسانية، هذا إذا افترضنا إجماعاً مع أن ذلك الإجماع محض خيال أو محض وهم لا حقيقة له، ثم إن هذه الآراء التى توصف بالشاذة هل قالها شاذون أم أئمة كبار وعلماء يشار لهم بالبنان؟ ومع أنهم كذلك فهم لم يقولوا أبداً سوى آرائهم، سوى اجتهاداتهم، سوى قناعاتهم، ولم يكونوا حينما قالوا سوى بشر يجتهدون، يحاولون، يتنافسون، يتأثرون ببيئاتهم وظروفهم الاجتماعية وميولهم وثقافاتهم، وربما أحياناً أمراضهم النفسية أو هواجسهم الاجتماعية، لذا طرحوا ما استنبطوه على أنه رأى مجرد رأى يحتمل الصواب بنفس الدرجة التى يحتمل بها الخطأ، لكنهم أبداً لم يقولوا الدين، وإن قالوا ديناً فهو دينهم هم، ودين الذى قال وحسب لا يلزم أن يدين به غيره
إذن فلتقل سعاد صالح ما تشاء، وليقل صبرى عبدالرؤوف ما يشاء، وليقل شيخ الأزهر والمفتى ووزير الأوقاف ما يشاءون، ونحن حينئذ نشكرهم حينما قالوا وشرحوا وفسروا وحاولوا، لكنهم بعد ذلك ليس لهم من سلطان على بشر أو شجر أو حجر أو قانون يحكم البشر أو الشجر أو الحجر إلا بما وافق عليه مجموع الناس واطمأنت إليه ضمائرهم، ضمائرهم التى لا يمكن أن نضعها على المحك وأن نختبر اطمئنانها إلا بإعمال تلك السنّة الحميدة «استفتاء القلب» التى أقرها المصطفى صلى الله عليه وسلم فى رواية ضعّفها النقل وقوّاها العقل.
كلمات كثيرة قالها الشيخ ومعانيها خطيرة ومن ورائها متجيشون يسعون بكل قوة لولاية الفقيه.
نعم يا سادة، ولاية الفقيه ليست جملة لآيات الله فى إيران وحسب، بل من الغريب أن البعض يحاكيها معنى وإجراء، ويتمثلها نظرية وتفصيلاً، ويطبقها جملة وحرفية، مع أنه ليس من الحوزة الإيرانية، بل يزعم زعماً بأنه من المرابطين على مذهب السنّة والجماعة، تناقضٌ صارخ، بل حالة فصام مرضية تؤكد أن البعض قانع بأنه ليس الدين كله لله وإنما كثير منه للشيخ وللمؤسسة وللهيئة وللبابا والماما والقس والكاهن والمعمم والداعية و(الداهية).
أصبحنا كمجتمع للأسف تصدق علينا رواية يونانية أليمة قررت فيها الآلهة المزعومة أن تعذب المغامر الجرىء بأن تجعله يصعد قمة الجبل وهو يحمل حجراً ثقيلاً، وكلما وصل إلى قمته ألقت به الآلهة إلى الأسفل مرة أخرى ليبدأ من جديد رحلة العذاب التى لا ولن تنتهى، هكذا فعلت آلهة اليونان المزعومة مع المحب الجرىء الصادق، وهكذا تحاول الآلهة المزعومة فى زماننا أن تصنع نفس الصنيع.
لا يا أيها الشيخ الطيب، نحن نقول نعم وألف نعم لولاية العقل، ونقول لا وألف لا لولاية الفقيه.