احمد عبد المعطى حجازى
الواقع يتغير.. والمرأة تتحرر
حين ننظر فى الردود التى اختلف فيها أصحابها مع قاسم أمين وعارضوه فى دعوته الموفقة لتحرير المرأة المصرية ندرك أن هؤلاء المخالفين لم يجدوا ما يستندون إليه فى تبرير موقفهم السلبى من المرأة إلا الواقع المتخلف الذى كان يقيد المرأة ويحرمها من حقها فى أن تتعلم وتتحرر وتشارك فى حياة المجتمع كعضو كامل الأهلية له كل الحقوق وعليه كل الواجبات.
صورة المرأة فى ذلك الوقت ـ أواخر القرن التاسع ـ كانت تعبيرا عن هذا الواقع المتخلف. وكان هذا الواقع شاهدا على بؤس الأوضاع التى تعيش فيها المرأة وتفرض عليها أن تكون كائنا هامشيا نصف إنسان لايعرف إلا القليل عما يجرى حوله، ولايرى نفسه إلا فى الصورة السلبية التى رسمتها له ثقافة الماضى وتقاليده البالية، فالمرأة فى هذه الثقافة مخلوق ناقص معرض للزلل والسقوط فلابد من حبس المرأة وحجبها وضربها حماية لها وللمجتمع.
هذا الواقع لم يكن محل خلاف بين الداعين لتحرير المرأة والمعارضين لهم، وإنما الخلاف كان فى فهم كل من الفريقين لهذا الواقع ولموقفه منه.
خصوم المرأة أو خصوم الحرية لم يروا فى الواقع إلا ما هو ثابت دائم متحجر لايتحول ولا يتبدل، فإن جد فيه جديد اعتبروه بدعة وضلالا وانحلالا ونذيرا بمصائب قادمة، وعليهم إذن أن يحافظوا على ماهو موجود ويقاوموا كل محاولة لتغييره.
أما الداعون لتحرير المرأة فقد أتيح لهم بما تلقوه من ثقافة العصر أن يفهموا الواقع فهما صحيحا ويدركوا أنه ليس إلا تعبيرا عن الذين يعيشون فيه، عن حاجاتهم وعن وعيهم بأنفسهم وبالعالم وقدرتهم على فهم الظروف المحيطة بهم واستغلالها فى تلبية مطالبهم. وعلى أساس هذا الفهم أدرك الداعون لتحرير المرأة أن الزمن لايقف وأن الحاضر لاينبغى أن يكون تكرارا للماضى أو تقليدا له لأن البشر يتعلمون من تجاربهم ويعرفون أن مطالبهم تتطور وأن واقعهم بالتالى يتطور ويتغير وأن مصر فى أيام قاسم أمين لم تعد مصر التى كانت فى زمن الشيخ الشرقاوى. وكما استطاع الرجل المصرى أن يتحرر ويطالب بالديمقراطية ويثور فى وجوه الحكام المستبدين تستطيع المرأة المصرية أن تتحرر مثله وإلا فلن تكون فى مصر حرية لا للمرأة ولا للرجل.
وقد أثبتت الحوادث التى شهدتها مصر فى تلك الأيام التى دعا فيها الداعون لتحرير المرأة أن هؤلاء كانوا على حق، وأن الواقع يتطور ويتغير بسرعة مدهشة، وأن المرأة تستطيع أن تحصل العلم الذى يحصله الرجل، وتؤدى الأعمال التى يؤديها، وتتولى المناصب التى يتولاها، وتفرض عليه أن يتعامل معها كإنسان كامل مساو له فى كل شىء. وفى مواجهة هذه التطورات التى شهدتها مصر فى الربع الأول من القرن العشرين راجع خصوم المرأة أنفسهم وعدل بعضهم موقفه منها كما فعل محمد فريد وجدى وطلعت حرب.
> > >
محمد فريد وجدى مفكر مصرى تتلمذ على يد الإمام محمد عبده وتمكن من اللغة الفرنسية واشتغل بالتأليف فأنجز وحده «دائرة معارف القرن العشرين»، وانتابته كما ذكرت بعض المصادر حالة «من الشك فى العقيدة» خرج منها بسلام ليضع جهوده فى خدمة عقيدته وفى هذا الإطار تصدى للدكتور إسماعيل أدهم الذى أعلن إلحاده ونشر مقالا بعنوان «لماذا أنا ملحد؟» فكتب محمد فريد وجدى مقالا بعنوان «لماذا هو ملحد؟» يناقش فيه إسماعيل أدهم ويفند ما جاء فى مقاله. وفى هذا الإطار أيضا أصدر كتابه «المرأة المسلمة» ردا على ما قدمه قاسم أمين فى «تحرير المرأة» وفى «المرأة الجديدة».
ومحمد فريد وجدى يرى أن كل ما حصله البشر فى مدنيتهم الحديثة بشر به الإسلام وحض عليه. العلم، والحرية، والتسامح، والأخوة الإنسانية، والعمل من أجل التقدم. لكن محمد فريد وجدى مع هذا لم يتفق فى كتابه مع قاسم أمين فى دعوته لتحرير المرأة، لأنه كان يرى أن البيت هو المملكة التى تستحق أن تسخر لها المرأة كل جهودها ومواهبها. وأن خروج المرأة ومشاركتها في النشاط العام ليس في صالحها ولا في صالح أسرتها، وأن مايجوز في الغرب لايجوز عندنا. فللغربيين حضارتهم ولنا حضارتنا التي يجب علينا أن نتحرك في نطاقها ونبتعد عن تقليد الغربيين، وإلا فنحن «إذا أشرنا اليوم بوجوب كشف الوجه واليدين فإن سنة التدرج سوف تدفع المرأة في الغد القريب إلي خلع العذار للنهاية التي ضج منها الأوروبيون أنفسهم. وبدلا من أن نضرب الأمثلة بالغرب دائما ينبغي أن نولي وجوهنا إلي عظمة مدنيتنا الإسلامية الماضية.».
هذا الرأي عبر عنه محمد فريد وجدي وهو لايزال شابا في نحو الثلاثين من عمره، ومصر لاتزال مشدودة إلي الماضي، والمرأة المصرية لاتزال سجينة معزولة. وقد تغير هذا كله في ثلاثينيات القرن العشرين فعاد محمد فريد وجدي ليراجع نفسه بعد أن أنضجته التجارب وليعلن وقوفه إلي جانب حرية المرأة وحقها في أن تتعلم وتعمل، وهذا ما كان يطالب به قاسم أمين، لكن محمد فريد وجدي لم يقف عند هذا الحد بل تجاوزه وزاد عليه فأعلن أن المرأة من حقها أيضا أن تدلي بصوتها في الانتخابات العامة وترشح نفسها لعضوية المجالس النيابية، مستشهدا في هذه المراجعة بالقرآن الكريم والسنة النبوية والتاريخ الإسلامي. وكما حدث لمحمد فريد وجدي حدث لطلعت حرب.
ونحن نعرف طلعت حرب رائد الاقتصاد المصري الحديث وواضع أسسه وقواعده، لكننا لانعرف طلعت حرب الكاتب صاحب الرأي الذي تصدي لقاسم أمين في دعوته لتحرير المرأة وعارضه في كتابين أصدرهما تباعا أولهما «تربية المرأة والحجاب» والآخر «فصل الخطاب في المرأة والحجاب». وهو فيهما لايقول الا ما قاله محمد فريد وجدي وغيره من الشبان المتحمسين الذين خلطوا في ذلك الوقت بين الاستعمار الإنجليزي الذي كان عليهم أن يقاوموه والحضارة الغربية التي كان عليهم أن يتعلموا منها، كما خلطوا بين الحقوق الطبيعية التي لايختلف فيها إنسان عن إنسان والتقاليد الاجتماعية التي تتأثر بالزمان والمكان وتتطور وتتغير.
طلعت حرب الذي أعلن فيما كتبه أن الدعوة لتحرير المرأة دعوة للانحلال وخدمة للاستعمار ناقض نفسه أو راجعها فيما بعد فشجع الفنون التي شاركت فيها المرأة وخلعت حجابها وعبرت عن عواطفها ومواهبها في السينما والمسرح، واستعان بالخبرة الأجنبية في نشاطه الاقتصادي الذي جمع بين شركات الطباعة ومصايد الأسماك ومصانع الغزل والنسيج والمستحضرات الطبية والكيماويات والأغذية.. وهكذا كانت مصر تتحرر وتتقدم، وكان رجالها ونساؤها يتحررون ويتقدمون.