شئنا أم أبينا، تبدو الشخصية المصرية صعبة المراس، أو قل متفردة، رغم التغيرات التى مرت بها عبر عقود طويلة متباينة، إلا أنها احتفظت لنفسها بطابع خاص، لعبت فيه الأعراف و التقاليد دوراً مهما، أكسبها بريقا متميزاً.
ولأن الحديث عن سماتها يطول، أركز على أبرزها، الثبات، فمن جيل إلى جيل ظلت القيم والعادات المصرية الأصيلة، راسخة، لم تتغير بتغير الزمن، حتى صار العرف عنصراً حاكما فى تكوينها، وكلنا يعلم أنه يكتسب قوته بعد مرور ما يقرب من قرن من الزمان على العمل به.
إلا أنه فى الآونة الأخيرة، تقريبا مع بدايات العقد الحالى، لوحظ تغير قد يراه بعضنا طفيفاً والبعض الأخر كبيراً، حيث أضحت هناك قيم جديدة، لم يألفها الناس، جزء منها خاص بسلوكيات غير حميدة فى مجريات الحياة اليومية، نشاهدها من بداية اليوم فى أثناء ذهابنا وإيابنا من العمل، تتضح أكثر فى عدم احترام قواعد المرور.
ويوم الأحد الماضى، مثال حى على ذلك وهو ما شهدته العاصمة، وأماكن أخرى كثيرة فى أرجاء المعمورة، نعم كان اليوم الأول للعام الدراسى، وكعادة كل عام يكون هذا اليوم مزدحماً، فما الجديد هذا العام؟ سؤال لابد من طرحه.
جديد هذا العام كان مستفزاً، كسر كل القواعد المعمول بها فى قانون المرور، السير عكس الاتجاه، بصلافة وعناد غير مسبوق، إصرار على الخطأ بكل ما تحمل الكلمة من معنى، والسبب الوصول بأسرع الطرق أياً كانت لمدارس الأبناء، والنتيجة تكدس مرورى، حتى تحولت معظم الشوارع إلى جراجات!
وهو وضع طبيعى حينما يخرج أولياء أمور الملايين من الطلاب فى الوقت نفسه سائرين فى نفس الاتجاه، يمسى ما حدث الأحد الماضى أمراً منطقياً، وحينما حاولت معرفة هذا التغير، وجدت أننا نمر بحالة من اللامبالاة لم نعهدها، هل سببها الزيادة الكبيرة فى عدد السكان؟ أم تسرب السلبية إلى النفوس بدرجة قد تبدو واضحة، بعد حالة الانفلات التى أعقبت «25 يناير» وقبل أن نلقى باللوم على الحكومة التى لم تحترز لهذا اليوم المزدحم، أذكركم بأمر مهم، أراه طارئاً، آخذه كنموذج، الغالبية منا تقطن فى عقارات تحتاج لصيانة وما شابه، الحادث أن نسبة ليست قليلة لا تكترث للأمر ولا تعيره أدنى درجات الاهتمام، حتى وصل وضع الكثير منها لدرجة سيئة، والأكثر غرابة زرع مصدات حديدية أمام العقارات لحجز أماكن للسيارات، لتضيق مساحات الكثير من الشوارع ويصبح المرور منها كما المرور من عنق الزجاجة، وكأن هذه المساحات المقتطعة من الشوارع باتت حقاً مكتسباً بوضع اليد!
أضف إلى ما سبق كم المقاهى التى انتشرت كالنار فى الهشيم وما تفعله فى الشوارع، حتى تحولت مقارها إلى نقط مرورية خانقة، وهذه المقاهى لا تعمل دون رواد، تغلق سياراتهم الشوارع، ثم يلعنون الحكومة التى لا تعمل على حل أزمات المرور!
بتنا نعجز عن حل مشكلاتنا الخاصة، فى تنظيم علاقتنا المتبادلة، وأصبحنا نبحث عمن ينظمها، فى تواكل مخيف، حتى إذا جاء من يأخذ بزمام المبادرة محاولاً طرح رؤى وحل لهذه المشكلات، يواجه بمعوقات مرهقة، أقلها النقد الهدام، فينسحب صاحبنا من المشهد حفاظاً على نفسه. فهل أصبحنا فى حاجة لوزارة جديدة معنية بسلوك الناس؟
الجزء الثانى خاص ببزوغ ظاهرة جديدة، ظهور فئة من الناس يعلنون امتلاكهم الحقيقة بمفردهم، وحينما تدخل معهم فى جدال لمناقشة رؤاهم، يهزون بكلمات لا معنى لها، مفادها، أنهم يتحدثون عن وجهة نظرهم الخاصة، هؤلاء يصدرون طاقة سلبية نحن فى غنى عنها، تجدهم فى وسائل الإعلام، يبثون سمومهم على الملأ، كما تجدهم فى أماكن كثيرة، يغلف الإحباط كلامهم، يتدثرون بثوب الناصح الأمين، وهم فى الحقيقة جاهلون.
من الطبيعى أن تمتلك وجهة نظرك الخاصة بك، ولكن لابد أن تُبنى على معلومات سليمة، من مصادر موثوق فيها، فقد بدأ بناء نهضتنا بفعالية وصدق ملموس، وأضرب هنا مثلاً حيا، منذ ثلاث سنوات تقريبا، كانت مصر تعانى ويلات انقطاع التيار الكهربائى، وقتها خرجت تصريحات تؤكد أن حل هذه الأزمة يستلزم سنوات، بعدها بشهور لم تصل للعام، انتهت الأزمة تماما، حتى أستطيع أن أقول وبثقة تامة، إن ما حدث يمثل إعجازاً بكل المعايير. ولأن الأزمة ماتت، ماتت أيضاً ذكرياتها، وبالتالى تلاشى الحديث عنها.
أصبحنا نحتاج إلى صياغة الوعى بشكل صحيح، ليعرف الناس كم لإنجازات التى تحققت، كما نحتاج لبث التفاؤل والعزيمة فى وجدان المواطن، ونحتاج لآلية تحفز ضرورة التعاون بين الناس، لتعيد إليهم عزيمتهم المطلوبة، العزيمة التى تبنى وتعمر.
الحكومة منوط بها القيام بالكثير والكثير من الأعمال، ولكنها لن تؤتى ثمارها ما لم تجد الدعم المطلوب من الناس، علينا أن ندرك أن مرحلة البناء هى الأصعب، بعد مرورنا بمرحلة انعدام وزن طالت أكثر مما يجب.
من هنا تنجلى أهمية تأكيد دور المواطن المنوط به نجاح أى انجاز يمكن تحقيقه، فبيده التعاون فى بنائه والحفاظ عليه أو أن يكون معول هدم له، وفى هذا الشأن فليتنافس المخلصون، ولنعلم أن للحقيقة وجهين: الأول ملموس، ساطع، كادح، والثانى خفى مضلل فلا تنجرفوا خلفه، حتى ينجح البناء.