منذ عشرات السنين وفي أقصى جنوب مصر وفي قرية تابعة لمحافظة أسوان وفي مدرسة إبتدائية كان هناك قائد يقود كتيبة من الجنود، القائد هو ناظر المدرسة والجنود معلمون يحاربون الجهل وباخلاص كبير..غرسوا بذوراً في أرض بكر فنبتت البذور ثماراً إخضرت بها قرية أصبحت فيما بعد أرضاً تطرح علماً وعلماءاً..لم يدرس الناظر علوم الادارة ولكنه كان مديراً بالفطرة..يتحرك دوماً من مكتبه إلى ساحة المدرسة وإلى الفصول لمتابعة سير العمل، أبدع الناظر اسلوب ( الادارة بالتجوال) لتأتي مدارس الادارة الحديثة بعده بسنوات لتنشر هذا الأسلوب وتؤكد على أهميته، لم تتح له الفرصة وقتها لاستخدام أساليب متطورة في تقييم اداء مرؤوسيه.. كان ضميره هو حاكمه ومشاهداته هي أدواته..كان رياضياً وكانت ساحة المدرسة لا تخلو من عروض ومنافسات رياضية يومية، كان يستمتع بالوقوف بجانب مدرس التربية الرياضية ليؤدي معه ومع التلاميذ تدريبات ويحفزهم على الثني والمد والشهيق والزفير..كان هو الانضباط عنواناً ومضموناً..وكان ناظراً بحق والنظارة عرفت به!!.. وكان هناك جنود عظام حفروا أسمائهم بأحرف من نور في وجدان وعقول من علموهم..كانوا ناسكين في محراب العلم ولم تجد المادة طريقاً سالكاً إلى قلوبهم وعقولهم..لم يكن الواحد منهم مدرساً في فصل..كان مزارعاً في حقل.. يحفر وينقي ويبذر ويروي!! كانت المدرسة في عهدهم ساحة إبداع كبير ومشهود..صحافة ورسم ومسرح ورياضة واحتفالات ينتظرها الجميع بشغف وتظل آثارها محفورة في الأذهان.. هم ناسكون والناسك لا يترك محرابه.. في المساء كانوا يعودون إلى مدرستهم..يتعبدون فيها وعبادتهم المسائية كانت محو أمية الكبار..كانوا يحاربون الجهل في الصباح والمساء!!! وفي قريتهم كانوا نجوماً ساطعة يصل نورها للجميع بحب وتواضع شديد ..لم ينثر الغرور بذوره في نفوسهم وكان هذا ممكناً في زمن قل فيه المعلمون والمتعلمون..كانوا بسطاء وفي بساطتهم سر من أسرار عظمتهم. لم ينشغل الاعلام بهم وبأمثالهم ولم تتحرك آلات التصوير لترصد حياتهم وأفعالهم واسهاماتهم ولم يكرمهم رئيس أو وزير فالدولة التي عاشوا فيها لم تكن لتكرم أمثالهم..عاشوا في هدوء ورحل أكثرهم في هدوء.. الآن عندما يأتي ذكر قريتهم في أي مكان يقولون عنها قرية " العلم والعلماء "... هذا عن التجربة الانسانية ..ماذا عن التجربة المؤسسية؟..مدرسة ابتدائية في فترة تمتد ما بين بداية السبعينات ومنتصف الثمانينات تقريباً وفي أقصى جنوب مصر وبامكانات محدودة تقدم نموذجاً للنجاح والتميز يشار إليه بالبنان..في هذه المدرسة كانت هناك إدارة قوية وهنا كان مفتاح النجاح..قوة الادارة لا تعني غطرسة واستبداد وقهر..قوة الادارة في عدالتها .. قوة الادارة في سيطرتها على مفاصل العمل وفي إدراكها لكل العناصر الرئيسية والفرعية المكونة للعمل بالملاحظة والمتابعة والتدقيق وفي تدخلها القوي في حالة حدوث تجاوز أو تقصير.. في هذه المدرسة كانت هناك صراعات محدودة فأي تجمع انساني لا يخلو أبداً من صراع..قارن بين الصراعات التي كانت في مدرسة الناظر وجيله وبين الصراعات في مدراسنا الآن لتعرف الفارق.. الثقافة المنسجمة كانت سبباً آخر من أسباب النجاح في هذه المدرسة والثقافة هنا يقصد بها عادات وتقاليد وقيم العاملين في المكان وهي أحد أهم محددات النجاح والتميز، مهما كان لديك طموحات ورؤى ستنكسر على عتبة ثقافة غير مدعمة أو مساندة..كان إنتماء العاملين في المدرسة لبيئة واحدة أثراً في انسجام ثقافتهم، بالطبع هناك فروق فردية ولكن تظل الخطوط العامة للثقافة متشابهة بين الجميع، الشركات العالمية توظف موظفين من دول مختلفة وثقافات مختلفة ولكنها تصهرهم في بوتقة واحدة من عادات وتقاليد وقيم عمل.. تمكين المواهب في المدرسة من إبراز ابداعاتها كان عاملاً آخر للنجاح في هذه المدرسة، وفي عالم الأعمال هناك حرب تدور رحاها بقوة يطلقون عليها حرب المواهب أو حرب من أجل المواهب - في بلادنا يخوضون حرباً ضد المواهب - المواهب هي التي تصنع الفارق.. وكان للموهوبين في هذه المدرسة دوراً أساسياً في صناعة مدرسة تغرد خارج السرب..تعلموا منهم فالنجاح ليس لغزاً أو لوغاريتماً يصعب تفكيكه..النجاح معادلة تحقق طرف فيها يعني تحقق الطرف الآخر بكل تأكيد..
من كتاب شكراً بطعم الشوكولاتة...قريباً في المكتبات