الأخبار
د.محمد مختار جمعه
قضية ورأي - مخاطر التوظيف الأيدلوجي للدعاة
تأثر إعداد الدعاة وتكوينهم في العقود الماضية بتوجهات وأيدلوجيات ونظريات عديدة، فقد تأثر إلي حد كبير بتوجيهات وأيدلوجيات وتخوفات وصلت إلي حد الانعزال عن الواقع تارة والتصادم معه أخري وبخاصة لدي بعض التيارات الأيدلوجية وبخاصة المنحرفة والمتطرفة والرامية إلي توظيف الدين لمكاسب سياسية أو مالية أو أيدلوجية.
فبعض التيارات التي تاجرت بالدين لتحقيق مكاسب سياسية أو حزبية أو أيدلوجية جماعة الإخوان الإرهابية ومن دار في فلكها من الجماعات والأحزاب والتيارات التي انضوت تحت لوائها أو تحالفت حزبيًّا أو سياسيًّا أو نفعيًّا معها، حيث تعتمد هذه التيارات علي ترسيخ مبدأ السمع والطاعة الأعمي، فأكثر الجماعات المتطرفة تعطي كلام البشر ضربًا من القداسة قد يصل لدي بعض عناصرها إلي مساواة قدسيته لكلام الخالق عز وجل، كوسيلة للسيطرة علي أتباعهم والعمل علي تسليمهم المطلق لرأي مرشدهم، فكلام بعض علماء العقيدة أو حتي علم الكلام، وبعض المحسوبين علي الدعوة من غير المتخصصين، أو كلام بعض كتاب التاريخ والسير، قد يرقي عند بعض أصحاب الفكر المتطرف إلي درجة النص القرآني، علي أن أحدهم قد يجادلك في فهمك للنص القرآني إن تناقض مع شيء من كلام شيخه أو مما دُسَّ له عبر كتبهم ومحاضراتهم وتفسيراتهم وتأويلاتهم، فكلام أدعياء العلم منهم يأخذونه علي أنه حكم الله المنزه عن الأهواء، والذي لا يُردُّ ولا يُناقَش، حيث يؤصلون لمبدأ الطاعة العمياء، فمجرد محاورة الشيخ أو مرشد الجماعة أو مراجعته أو مناقشته هي ردة يجب التوبة منها أو العقاب عليها ، بحيث صار بعض من يؤثرون السلامة لا يجرؤون علي البوح بمجرد التفكير في المناقشة أو المراجعة ، مع أخذ كلام الشيخ غير المعصوم أو المنزه عن الأعراض البشرية مأخذ النص المقدس ، بل إن أحدهم قد يسمح لنفسه بأن يناقشك في النص القرآني أو النبوي وطرائق الاستدلال به ، غير أنه لا يسمح لك ولا لنفسه بمراجعته في إملاءات شيخه أو أميره التنظيمي أو مرشده.
علي أن أعضاء هذه الجماعات ينظرون إلي من ليس معهم علي أنه عدو ويجب الحذر منه والنظر إليه بعين الريبة والعداء للدين، ولا يعذرون أحدًا بأي عذر إنما يرون في كل من خالفهم مارقًا عن الدين، وعدوًا له ومتربصًا به، وربما كان هؤلاء أو بعضهم أكثر منهم حبًا للدين وحرصًا عليه.
وهناك التيارات الجامدة التي انكفأت علي بعض المصادر التراثية القديمة في كل ما ورد بها حتي مما ناسب عصره وزمانه ومكانه نصًّا مقدسًا غير قابل للتفكير أو إعادة الاجتهاد، أو إعادة إعمال العقل، وهذه معضلة كبري، هي معضلة الجمود، من هؤلاء المنغلقين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أن باب الاجتهاد قد أغلق، وأن الأمة لم ولن تلد مجتهدًا بعد، وأنها عقمت عقمًا لا براء منه، متناسين أو متجاهلين أن الله ( عز وجل ) لم يخص بالعلم ولا بالفقه قومًا دون قوم، أو زمانًا دون زمان، وأن الخير في أمة محمد (صلي الله عليه وسلم) إلي يوم القيامة.
وإذا كان هذا الانغلاق والانكفاء علي الذات قد أدي إلي هذا الجمود، فإن واجبنا أن ننفتح وبكل قوة وحكمة وعقل علي واقعنا المعاصر، نتفاعل معه، ونعيش فيه، وندرس متطلباته ومستجداته، ونعيد النظر فيما يحتاج إلي إعادة النظر من تلك الفتاوي التي ناسبت عصرها وزمانها ومكانتها في إطار الحفاظ علي الثوابت وعدم المساس بها من جهة، وبيان أن الفتوي قد تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، والأحوال والأشخاص، فما يكون راجحا في عصر قد يكون مرجوحا في وقت آخر، وما يكون مرجوحا تارة في وقت قد يكون راجحا في وقت آخر.
نحن لسنا في حاجة إلي تجديد وتصويب الخطاب الديني فحسب بل إننا لفي حاجة ماسة إلي تجديد وتصويب الخطاب الديني والعقلي والعلمي والثقافي والتربوي، لننقل للعالم كله الوجه المشرف لديننا السمح من جهة، أو تصحيح المفاهيم الخاطئة، وتفكيك مقولات المتطرفين، ونسهم إسهامًا جادًّا في صنع الحضارة ونشر السلام في العالم كله من جهة أخري.
فشتان بين العالم الحر والعالم المؤدلج، فالعالم الحر الذي لا يقيده شيء سوي ما يمليه عليه دينه وضميره ووطنيته هو ذلك الأنموذج الذي نبحث عنه ، وهو القادر علي خدمة دينه ووطنه وقضايا أمته دون أي حسابات مربكة ، أما العالِم المؤدلَج أو المقولب أو الموجه أو الموظف لخدمة جماعة ما لا يمكن أن يكون إلا عبدًا لهذه الجماعة ، ذلك أن الجماعة تأخذ من العالِم أمر دينه لتقايضه بفتات زائل من دنيا الناس ، ومهما عظم أمر هذا الفتات لا يعدو كونه عرضًا زائلاً وحطامًا فانيًا.
إن أكثر العلماء الذين وظفوا أنفسهم لصالح جماعات أو أيدلوجيات جماعات وطوائف بعينها وانساقوا خلف توجهاتها خسروا حياديتهم ومصداقيتهم وأنفسهم وربما دينهم في آن واحد.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف