المصرى اليوم
عبد الناصر سلامة
بلاها الرى.. شكراً ساويرس
طرحتُ الأسبوع الماضى قضية أراها على قدر كبير من الأهمية، تتعلق بصحة الإنسان المصرى، من خلال استحالة وصول مياه النيل إلى بعض أراضى الدلتا الخصبة، وتحديداً فى قرية بانوب مركز نبروه محافظة الدقهلية، رغم مرور مياه النيل عليها، إلا أنها تحتاج إلى محطة أو ماكينة رفع، عجزت وزارة الرى عن توفيرها على مدى سنوات طويلة، وهو ما رفع من نسبة الأمراض بين الفلاحين، نتيجة التعامل مع مياه المصارف بكل ما تحمل من أوبئة، ناهيك عن المحاصيل نفسها، والتى تصبح فى هذه الحالة غير صالحة لا للإنسان ولا للحيوان، إلا أنه يتم أكلها وهضمها فى صورة سموم بشكل يومى.

لم أكن أُعول على وزير الرى بإصدار أوامر فورية بحل الأزمة، وإلا لكان فعل ذلك منذ ما قبل النشر، إلا أننى أردت دق جرس الإنذار تجاه ما يجرى فى مجتمعنا، لكن فوجئت بتواصل رجل الأعمال المحترم المهندس سميح ساويرس معى، مبدياً استعداده للإنفاق على تكاليف هذه العملية حتى مليون جنيه، قائلاً: لا داعى للشكر، فهذا واجب، وبالفعل أصدر توجيهاته لمساعديه بالبدء فى تنفيذ المشروع، الذى أخشى أن تعوق وزارة الرى تنفيذه، ذلك أنه لن يكون هناك موظفون مستفيدون لا فى عملية إسناد المشروع، ولا فى مراحل العمل، ولا غير ذلك مما اعتاد عليه العمل الحكومى بصفة عامة.

ما فعلته وزارة الرى، من خلال ذلك الموقف العجيب والمتعنت، يؤكد أننا لا نسير أبداً على الطريق الصحيح، البيروقراطية كما هى، الفساد كما هو، الغباء كما هو، بالتالى التخلف كما هو، بينما كان ما فعله المهندس سميح ساويرس دلالة بالغة على أن الخير موجود إلى يوم القيامة، دلالة على أن بعض رجال الأعمال أو أصحاب رؤوس الأموال يحملون من مشاعر الخير الكثير والكثير تجاه مجتمعهم، دلالة على أن الجهود الذاتية سوف تظل الملاذ فى ظل سياسات متخبطة تتحدث طوال الوقت عن إصلاح الصحراء، فى الوقت الذى تتصحر فيه أراضى الدلتا بفعل فاعل.

الغريب فى الأمر هو أن مقايسة وزارة الرى تضمنت تكلفة للمشروع قدرها نحو مليونى جنيه، فى الوقت الذى يؤكد فيه الأهالى أنها لن تتجاوز مليون جنيه بحال من الأحوال، وهو ما أكده المهندس سميح أيضاً بحُكم خبرته، مستشهداً هنا بكاريكاتير الراحلين أحمد رجب ومصطفى حسين، الذى كان يتضمن ذلك المعنى المراد منه وقف الحال، وعدم وجود إرادة للعمل أصلاً، هذا إذا تعاملنا مع الموضوع بحسن نية، فى ظل ذلك الهرج والمرج الحاصل فى إسناد المناقصات والعطاءات وغيرها.

هذه القضية التى نحن بصددها تفتح قضية أخرى أكثر خطورة، تتعلق بالأولويات فى حياتنا، أو الأولويات فى برامج الحكومة، التى أصبحت تهمل أرض الدلتا الخصبة لحساب مشروعات زراعية وهمية بالصحراء، والتى أصبحت تهمل المدارس والتعليم بصفة عامة فى ٩٥٪‏ من بر المحروسة لحساب الاهتمام بمدارس دولية ارتفعت مصروفاتها إلى حدود سافرة، وتتعلق أيضاً بإهمال المنظومة الصحية فى الأقاليم التى يلجأ إليها معظم الشعب لحساب مستشفيات الخمس نجوم التى لا يقدر عليها سوى فئة قليلة، كما تتعلق فى الوقت نفسه بإنشاء مزيد من طرق الصحراء ذات رسوم العشرة جنيهات، بينما طرق محافظات الدلتا التى يستخدمها ٨٠٪‏ من الشعب بصفة يومية أصبحت فى حالة يرثى لها، وسط تراجع واضح فى عمليات الإحلال والتجديد والصيانة، وما ينتج عن ذلك من هدر للأموال نتيجة تراجع إعمار وصلاحية السيارات من جهة، ومن جهة أخرى نسبة الحوادث اليومية الأعلى فى العالم.

المؤكد أن مصر دولة عظيمة، ليس بالجغرافيا المتميزة فقط، ولا بالتاريخ العريق فقط، وإنما بثروتها البشرية بالدرجة الأولى، بمواطنيها عموماً الذين يمكنهم فعل الكثير إن تم الاعتماد عليهم فى إنجاز مشروعاتهم الإقليمية كلٌ فى موقعه، أيضاً برجال أعمالها إن مُنِحوا الثقة بدلاً من تعويقهم طوال الوقت لحسابات ضيقة، لا تصب أبداً فى مصلحة الوطن، كما هى أيضاً دولة عظيمة بخبرائها وأكاديمييها الذين يتم تجنيبهم طوال الوقت لحساب تصنيفات سياسية، إلا أن تلك التربية الوظيفية والتنفيذية العقيمة يجب أن تتغير إلى المقاييس والمعايير الدولية، إن كانت هناك إرادة حقيقية فى النهوض، وهى مسؤولية الحكومة أولاً وأخيراً.

على أى حال، أعتقد أن أهالى القرية التى نحن بصددها سوف يتوجهون بالشكر والامتنان إلى المهندس سميح ساويرس بطريقتهم الخاصة، وذلك بإطلاق اسمه على محطة رفع المياه طى الإنشاء، إلا أن وزير الرى أيضاً يصبح مديناً بتوجيه الشكر إلى ذلك الرجل الذى حمل عبئاً كبيراً عن الوزارة، إلى جانب موقفه الإنسانى، فى الوقت الذى نأى فيه محافظ الدقهلية بنفسه عن الأزمة، وكأنه يحكم إقليماً آخر، فجلس على مقعد المتفرجين يشاهد إحراز الأهداف، إلا أننا نأمل أن يصفق ولو بعد انتهاء المباراة مادام الأداء كان جيداً، ذلك أن المباراة فى النهاية تقام على أرضه ووسط جمهوره، والبث أصبح على الهواء مباشرةً.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف