الوطن
د. محمود خليل
المعادلة الزمنية
كل زمن وله معادلته، وصدق الله العظيم إذ يقول: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ»، أقول ذلك بمناسبة القرار الأخير الذى أصدرته حكومة المملكة السعودية بمنح المرأة حق قيادة «السيارة». مشهد رفض هذا المطلب للمرأة السعودية -طيلة السنوات الماضية- كان غريباً، خصوصاً أن هذا الأمر أصبح مفروغاً منه فى الكثير من المجتمعات الأخرى. وظنى أن الإصرار على الرفض كان مرده أفكار تريد للرجل أن يكون قيماً بشكل مستمر على المرأة، وكان الإصرار على عدم منح المرأة السعودية هذا الحق تعبيراً رمزياً عن الأمر، فهى دائماً تحت قيادة الرجل، كل ذلك كان يحدث على الرغم من أن هذه المرأة نفسها عندما كانت تتحرك إلى مجتمعات أخرى، كانت تؤدى كما تؤدى المرأة فيها، فتقود السيارات وتروح وتجىء مثل غيرها. وظنى أن القرار كان مختمراً لدى الشعب السعودى منذ سنوات طويلة، وكل ما حدث أن الحكومة ترجمته وأعلنته بصورة رسمية. وتلك حال المجتمعات دائماً، لا بد فى البداية أن يتغير فكرها وتتبدل مواقفها، وستجد السلطة بعد ذلك نفسها مضطرة للاستجابة للمجموع.

التغيير الاجتماعى يبدأ من الناس وينتهى عندها، وتغيير المجتمعات أمر لا يحدث بسهولة، فهو يتم ببطء وعلى مدار مراحل زمنية طويلة، وعندما تستوى الفكرة فى رأس المجموع، لا بد أن يؤخذ فى الاعتبار إمكانية ظهور أطراف من المجتمع تأبى التطوير وتصادر عليه، وتحاول الحيلولة دونه، لكن عجلة التغيير ماضية فى كل الأحوال. وهو ما حدث فى المملكة. ربما نظر البعض إلى ما حدث كنوع من الانفتاح من جانب السلطة السياسية فى المملكة، لكن الأمر فى تقديرى أعمق من ذلك فهو يرتبط بمعادلة زمنية جديدة يعيشها المواطن السعودى، فرضت على القائمين ضرورة التعامل الإيجابى معها. وهو ما حدث بالفعل.

كل وقت وله ظروفه، وكل عصر وله «أدان»، وكل زمن وله معادلته. والوعى بالمعادلة الزمنية أمر شديد الأهمية فى تفسير التحولات التى تصيب الدول والمجتمعات. هناك أشياء كانت مستبعدة بشدة فى عصور سابقة، نراها اليوم فى الواقع رأى العين، والسر فى ذلك المعادلة الزمنية المختلفة التى تحكم العصر والوقت الذى نعيشه. والمجتمعات الذكية لا تتعامل مع التغيير بمنطق المصادرة، بل بآلية التحصين. فإذا كانت هناك أفكار معينة تتناقض مع العادات والتقاليد والقيم السائدة داخل المجتمع، فعلى الإنسان ألا يتعامل معها بمنطق النفى والاستبعاد، بل بمنطق الاحتواء والاستيعاب، وتحصين نفسه وغيره منها، ليس بالجعجعة اللفظية، ولكن بثقافة حقيقية تمكن صاحبها من مقاومة الأفكار الشاذة والقيم المرفوضة، والتسامح مع ما ليس منه بد، نظراً لارتباطه الشديد بطابع العصر. زمان كان المفكر عباس محمود العقاد يسخر ممن يمنعون الناس من قراءة كتب معينة، لأنها تحتوى على أفكار تضر بالعقل أو الوجدان، ويصف جهات المنع بأنها تعامل الناس كما يعامل الطبيب مريضاً ممعوداً، فيحدد له أنواع الأطعمة التى يمكن أن يتناولها، والأطعمة التى يجب أن يبتعد عنها، وكان يصر على ضرورة معاملة البشر على أنهم أصحاء العقل محصنون ضد الأمراض يستطيعون أن يميزوا بين الخبيث والطيب من الأفكار. السر فى التحصين!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف