ذهبت مع عدد من الزملاء الصحفيين لإجراء حوار جماعي مع المرحوم الشيخ محمد متولي الشعراوي في منزله بالهرم. وبعد انتهاء الحوار الذي استمر لأكثر من ساعتين أمسك الشيخ بجهاز التليفون اللاسلكي الموجود إلي جواره وطلب رقماً ثم فاجأنا بسؤال كل منا عن عدد أفراد أسرته وأخذ يبلغ محدثه في الهاتف باسم كل منا وعدد أفراد أسرته.. وشهد معنا هذا اللقاء الشيخ الحمزة دعبس وكان رئيساً لمجلس إدارة إحدي الصحف الحزبية الذي فهم ما يفعل الشيخ فأبلغ أن عدد أفراد أسرته 16 فرداً فضحكنا جميعاً لهذا العدد الكبير وعلق الشيخ "معاك كام زوجة حالياً يا شيخ دعبس".. فرد "اثنتان فقط يا مولانا"!!
عقب انتهاء المكالمة طلب منا الشيخ الشعراوي أن نذهب إلي أشهر مطعم للكباب في مصر في مركزه الرئيس بشارع القصر العيني لاستلام وجبة غداء لأفراد أسرنا ثم قام بتسليم كل واحد منا مصحفا كبيرا من إنتاج مطبعة الملك فهد للمصحف الشريف بالمدينة المنورة.. وعندما حاول بعضنا الاعتذار عن قبول وجبة الغداء ظهرت علامات الغضب علي وجه الشيخ وقال: "طعام الشيخ الشعراوي لا يرد وهذه هدية لأولادكم وليس لكم".
شكرنا الشيخ الجليل الذي اشتهر بالكرم والعطاء وانصرفنا جميعاً إلي صحفنا بعد الانتهاء من أعمالنا مررنا في أوقات متفاوتة علي المطعم وإذا بنا نفاجأ بكرم الشيخ الشعراوي.. كل فرد من أفراد الأسرة نصف كيلو كباب "موصي عليه" مع كل أنواع السلطات وأخذ الشيخ الحمزة دعبس ثمانية كيلو كباب مع مشتملاتها تكفي لإطعام شارع كامل وليس أسرة من زوجتين وأولاد.
هذا الموقف الذي مر عليه أكثر من ربع قرن يفرض نفسه علي ذهني كلما رأيت سلوكاً غير مقبول من أحد الذين ينتسبون للعمل الدعوي سواء علي موائد الطعام أو بعيداً عنها. لإيماني الشديد بأن الداعية ينبغي أن يكون قدوة في العفة والنزاهة والعطاء وأن يجسد صورة طيبة في أذهان كل المحيطين به والمتعاملين.
***
بالتأكيد نحن جميعاً بشر وتختلف طباعنا وأسلوب تربيتنا وقد يصدر عن بعضنا ما يرفضه الآخرون وهذه طبيعة البشر.. لكن ينبغي أن يكون عالم الدين أو الداعية أو خطيب المسجد قدوة في سلوكه العام فهو محط أنظار الجميع وكل تصرف محسوب عليه وقد يترك تصرفه المرفوض صورة غير مرغوب فيها لكل من يلبس العمامة أو يعمل في مجال الدعوة.. وهذا هو الأخطر. حيث تتلقف- للأسف- بعض الأعمال الدرامية التجاوزات السلوكية وتجسدها للناس لتظهر "الشيخ" - داعية كان أو حتي مأذونا- في صورة مهترئة لا ينشغل إلا بكيفية تعبئة معدته بكل ما لذ وطاب من الطعام حتي ولو كان علي حساب كرامته.
أقول هذا بعد أن رأيت سلوكيات مرفوضة منذ أيام من بعض الذين يلبسون العمامة الأزهرية علي مائدة طعام مما دفع بعض الحاضرين إلي السخرية منهم بشكل علني في حضورهم وبعد انصرافهم فتألمت لما حدث وصمت وانصرفت وأنا أقارن سلوك الشيخين بما أراه من عفة نفس وكرامة وكرم من كثير من العاملين في ساحة الدعوة الإسلامية.
كان يمكن أن أري وأتألم وأصمت كما شاهدت كثيراً من السلوكيات المرفوضة من قبل وتألمت وصمت.. لكن أردت هنا أن أنبه جميع العاملين في ساحة الدعوة الإسلامية أنهم في مكانة عالية في نفوس الناس جميعاً وينبغي أن يحافظوا عليها. وأن يضبطوا سلوكهم العام حتي يظلوا قدوة طيبة للآخرين.
علي مائدة طعام بمدينة الإسماعيلية جلست إلي جوار الشيخ محمد الغزالي في ضيافة المحافظ د. أحمد جويلي- رحمهما الله- وأخذ الشيخ يتناول طعامه بتحفظ ولاحظ د. جويلي أن الشيخ لا يأكل فانشغل طول وقت الطعام بأن يأكل الشيخ الغزالي من الطعام الذي يناسبه والذي أعد خصيصاً له. والشيخ يرد "الحمد لله أكلت".. وفي ضيافة اللواء عبدالمنعم سعيد محافظ جنوب سيناء الأسبق جلست لتناول طعام الغداء في مدينة شرم الشيخ بالقرب من مائدة شيخ الأزهر الراحل الشيخ جاد الحق علي جاد الحق وظل المحافظ طوال وقت الطعام يحث الشيخ الجليل علي تناول الطعام وهو يقول "الحمد لله" وظل الجميع يأكل والشيخ اكتفي بطعام قليل.
هؤلاء هم العلماء القدوة الذين جسدوا صورة طيبة لعلماء ودعاة الإسلام فكان الجميع يخشاهم ويتعامل معهم بكل احترام وتقدير.
***
منذ سنوات ذهب أحد الزملاء الصحفيين مع أحد الدعاة المشهورين لافتتاح مسجد في مدينة السويس واشترط الداعية الفضائي الأجر الذي يتقاضاه قبل سفره مع نوعية الطعام الذي يتناوله بعد الافتتاح.. وهم جميعاً علي مائدة طعام فاخرة تحتوي كل أنواع الأسماك طلب الداعية اللامع أن تأكل أسرته من نفس الطعام الذي تناوله فتم إعداد وجبة طعام كبيرة للأسرة وعاد بها الداعية وكأنه يحمل كنزاً ثميناً!!
مثل هذا السلوك مرفوض من أي شخص لأنه يجسد صورة كريهة لأي§ إنسان فما بالنا بداعية يدعو الناس إلي عفة النفس والزهد فيما في أيدي الناس ويذكرهم دائماً بحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه". وما ورد في الأثر: "ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام".
هذه مجرد تذكرة.. والذكري تنفع المؤمنين. وكل علمائنا ودعاتنا الأفاضل مؤمنون والحمد لله وهم بالتأكيد حريصون علي تجسيد صورة طيبة للعالم والداعية.. نسأل الله لنا ولهم العفو والالتزام بآداب وأخلاق الإسلام في كل أمر من أمور حياتنا.