بهاء جاهين
الأثر الاخلاقى للجمال الفنى
ما نُشر أخيراً حول وقف أحد الشيوخ التابعين لوزارة الأوقاف, لأنه غنّى علناً أغنية لأم كلثوم, يفتح الباب لنقاش واسع يتجاوز الحادثة التى نُشر عنها الخبر إلى طبيعة الفن ومدى اتفاقه أو تعارضه مع حُسن الخلق ومع الوقار والمسلك الاجتماعى القويم المحترم.
وحين نذكر الفن هنا فنحن نعنى الفن الراقي.. فهل يمس الفن الرفيع هيبة من يستمتع به, أو يمتع الآخرين؟
أرى على العكس أن التعرض المنتظم منذ الصغر للجمال الفني, وما يحويه من تناغم وانسجام وتوازن واتزان, يهذب النفس والروح, ويرتقى بالعقل من كل النواحى بما فيها الأخلاق, لأن ذلك التناغم والاتزان, الذى هو جوهر الفن, يتسرب إلى نفس المستمع أو الرائى أو القارئ, ويترسب ويترسخ عبر الزمن ليؤكد فى الروح الناشئة نزعة الاعتدال والانسجام, وينفى عنها النشاز والتنافر والفوضي, فيتحول الجمال الفنى فى باطنها إلى جمال روحى وعقلى وأخلاقي, وينتج وجداناً متسقاً مع نفسه, ينفر من القبح بكل معانيه ومستوياته, سواء كان قبحاً ونشازاً فى الصوت, أو فى تكوين اللوحة, أو فى الفكرة, أو فى الموقف الأخلاقى والسلوك الاجتماعي. وهل الخير فى جوهره إلا الجمال الخُلقي؟.
وحين نتأمل أحوالنا فى العقود الأخيرة, وما ساد فيها من عنف وتطرف وفساد, وأشكال أخرى من القبح متعدد المعانى والمستويات, ألا نلاحظ أن ذلك تزامن مع مرحلة انحط فيها فن الغناء وانحدر التلحين, وأصبح كل من هبّ ودبّ يغنى وينشز على هواه؟ أو يعتلى المئذنة ويدعو الناس للصلاة على أساس ان جمال الصوت لا علاقة له بتأدية الفريضة؟
النشاز لا يتجزأ, والقبح المستشرى اجتماعياً صاحَبه قُبح فنيّ؛ فصرت لا تدرى أيهما أنتج الآخر, كالبيضة والدجاجة! وكما أن القبح والنشاز لا يتجزآن, فالجمال أيضا يعضد بعضه بعضاً ويولده وينميه.. ولهذا فبدلاً من التأذى من الغناء كل الغناء, فلنميز بين راقيه ومنحطه, ولندفع المجتمع إلى حب الجمال, لأن الفن الراقى يرفع المجتمع بأسره, ويرقيه فى كل نواحيه.
بالطبع هى عملية اجتماعية وقومية معقدة وتستغرق وقتاً, لكن مما لا شك فيه أن الجمال الفنى له دور فى التنمية.. ألم تقرأ يا عزيزى أو تسمع أن النبات ينمو ويزدهر ويزهر بالموسيقى والحنان والكلمة الطيبة؟ فما بالكم بالإنسان!
إن صوت أم كلثوم وألحان رياض السنباطى وكلمات عبد الفتاح مصطفى تختلف عن مهرجانات هذا الزمان؛ والجمال ليس حراماً فى ظني, بل القبح هو المكروه. وهو يتكاثر وينتشر كالفطر المسموم. فانحطاط الفن خطر على المجتمع كله, لأن الانحطاط يولد الانحطاط, والقبح الفنى يلد كل أنواع القبح القومي. وعلى العكس, فإن جمال الفن ورقيه يساعد على نهضة المجتمع, الذى لَبِنَته هى الإنسان السويّ المعتدل, المتسق مع نفسه, المنسجم داخله, والمتزن والمتناغم كاللحن الجميل.. وإذا كنا نسينا زمن الفن الراقي, فمن الخير أن يكون بعضنا «لسه فاكر».