الأهرام
طه عبد العليم
إرث ثورة يوليو وزعامة ناصر
مع إصدار السيد عمرو موسى (كتابَه) ومع ذكرى وفاة جمال عبدالناصر يتأكد مجدداً أن إرث ثورة 23 يوليو وزعامة جمال عبد الناصر- بما له وما عليه- يستحق دون ريب قراءة موضوعية نقدية؛ تتجرد من أوهام تُلهم البعض، وتتحرر من أشباح تُؤرق البعض الآخر. وأقرر باستقامة، أن إنجازات الثورة وزعيمها تجب إخفاقاتهما؛ سواء من زاوية أن خياراتهما وسياساتهما وإجراءاتهما كانت ابنة زمانها, أو من منظور ما ينبغى لمصر أن تسعى لتحقيقه من أجل المستقبل من قيم التقدم وإن بوسائل متغيرة.

وأسجل، أولا، هنا أنه ليس صحيحا أن ثورة يوليو وزعامة ناصر قد أهملت الزراعة لحساب الصناعة، وأنها أخفقت فى كليهما. ولا أنفى هنا أن حقيقة أن تفتيت الملكية الزراعية نتيجة نظام المواريث قد أثر سلبيا على انتاجية الزراعة، ولا أنفى ما جرى من تحويل الفائض الزراعى لصالح تمويل التصنيع والموازنة. لكننى أزعم أن الاصلاح الزراعى لم يكن بدعة ناصرية أو اشتراكية وإنما مطلباً لقوى ليبرالية وممارسةً عالمية استهدفت تعظيم الاستثمار فى التصنيع وزيادة القدرة الشرائية للسكان. وأزعم أن الاصلاح الزراعى- بتقليصه لملكيات شبه إقطاعية هائلة، اغتصبتها الأسرة العلوية الحاكمة، وتكونت باستنزاف مدخرات الأمة المتاحة للاستثمار- كان فى صالح غالبية الأمة من الفلاحين المعدمين والفقراء.

وفى قراءة سياق الاصلاح الزراعى، تبرز حقيقة أن المضاربة على شراء الأرض الزراعية بالوعة بلا قرار استنزفت مدخرات الأمة اللازمة لتصنيع مصر، وبغرض وقف هذا النزيف قدم محمد خطاب، عضو مجلس الشيوخ، مشروع قرار إلى البرلمان سنة 1944 يطالب بعدم السماح لأى شخص يملك أكثر من 50 فدانا بشراء أو استحواذ أراض جديدة، ووافقت لجنة الشئون الاجتماعية فى مجلس الشيوخ على المشروع وإن عدلت الحد الأقصى إلى مائة فدان، لكن المجلس الذى شكل كبار الملاك غالبيته الساحقة رفض المشروع نهائيا سنة 1947. وفى انتخابات 1949 طالب 76 مرشحا مستقلا بتحديد الملكية الزراعية وزيادة الضرائب على الأطيان حتى يحول ملاك الأراضى مدخراتهم للصناعة. وسجل صبحى وحيدة بكتابه (فى أصول المسألة المصرية) الصادر عام 1950 يقول إنه: لا شك فى أننا نستطيع أن نزيد فى إنتاجنا الحالى إذا رفعنا من شأن المشتغلين بالزراعة وزدنا بذلك عدد المستهلكين لمنتجاتنا الصناعية. فنحن لا ننتج الآن إلا لهذه المدن القلائل دون أهل هذا الريف الشاسع الذين يبلغون نحو ثلاثة أرباع أبناء البلاد لأنهم لا يكادون يستهلكون إلا ما يصلون إلى تحصيله من المواد الضرورية لحياتهم المتواضعة.

وثانيا، أن بناء السد العالى فى عهد ثورة يوليو وجمال عبد الناصر كان ولا يزال أهم مشروع للتنمية الزراعية عرفته مصر طوال تاريخها. وبفضله تمكنت مصر- لأول مرة فى تاريخها- من كبح أهواء فيضان النيل، العالى والواطى، وكبح أخطار شَرَقه وَغَرقه، وتقليص هدر مياه النيل فى البحر, وتحويل أراضى الحياض بالصعيد الى الرى الدائم، ومضاعفة انتاج شمال الدلتا من الأرز. ويقف السد العالى كاشفاً بؤس نقده، ركيزةً للسياسة المائية لتوفير وترشيد وتنمية وإعادة استخدام حصة مصر من مياه النيل، وخط الدفاع الأهم فى تقليص أخطار مؤامرة سد النهضة، الذى يحقق للحلم الاستعمارى القديم لتركيع مصر بسلاح مياه النيل.

وبفضل السد العالى تمكنت مصر من بناء قاعدة الطاقة اللازمة للتصنيع والتنمية الشاملة بتوليد أقصى المتاح لإنتاج الكهرباء من المصادر المائية النظيفة والرخيصة، وإقامة أول وأحدث شبكة قومية لتوزيع الكهرباء. وفى سياق معارك تاريخيه لتحقيق الاستقلال السياسى والاستقلال الاقتصادى والتنمية الشاملة، المشروع الثالث لتصنيع مصر- بعد مشروعى محمد على وطلعت حرب- وحققت خطوات حاسمة على طريق تحقيق حلم التصنيع, حتى غدت وفقا لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية بين اكثر خمس بلدان نامية تصنيعا عند وفاة ناصر.

وثالثا، أن إنجازات قيادة عبدالناصر تفسر العدوان, وإخفاقاتها تفسر الهزيمة. والحقيقة أن زعيم الثورة يتحمل مسئولية: مصادرة الحريات السياسية فى ظل سلطوية طاغية بزعم حماية الثورة, وتأميم الرأسمالية الوطنية ووأد المبادرة الفردية, وهيمنة البيروقراطية واعتبار الولاء للنظام ثم للشلل ثم لمراكز القوة معيارا لتولى مواقع القيادة فيها، وتمكين قيادات عسكرية لم يخف تدنى كفاءتها وعدم استعدادها القتالى؛ وهو ما تأكد بالهزيمة اللاحقة، رغم تسليح القوات بما كان يحول دونها.. إلخ. والإندفاع فى تصعيد الحرب الباردة العربية العربية رغم دعوة الوحدة العربية! وتحميل مصر ما لا طاقة لها به فى قيادة حركة النضال ضد الاستعمار على امتداد العالم بأسره! والرهان الخاسر على دعم الاتحاد السوفيتى المطلق بما يتجاوز شروط صراعه مع الامبريالية وحدود موقفه من اسرائيل.. إلخ. وقد انزلق عبد الناصر الى حرب اليمن وأرسل اليها نخبة قواتنا رغم متطلبات الدفاع ضد عدو متربص! فمهد الطريق لمؤامرة اصطياد الديك الرومى بعدوان 1967.

لكنه رغم مرارة الهزيمة وتحت نيران حرب الاستنزاف, تحقق وعد الثورة ببناء جيش وطنى قوى, وهو ما جسده انتصار القوات المسلحة المصرية فى معركة العبور المستحيل العظيم فى أكتوبر 1973. ولأنه ليس للهزيمة أبٌ وللنصر ألفُ أبٍ وأب! كان منطقيا أن حرم ناصر من شرف دوره فى تحدى وتجاوز الهزيمة ونسب كامل النصر للسادات! رغم أن الأول وليس الثانى هو الذى قاد الأمة وأعاد بناء القوات المسلحة فى سنوات الهزيمة الحالكة, ودفع للأمام بقيادات نصر أكتوبر وفق معايير الكفاءة المهنية والانتماء الوطنى فكان نصر أكتوبر العظيم. وكانت جنازة جمال عبدالناصر الفريدة اعلانا تاريخيا من الشعب المصرى بأنه يعرف قدر ويثمن دور زعيمه رغم خطيئة الهزيمة، وكان امتداد جنازته الشعبية عربيا من المحيط الى الخليج هزيمة نكراء لصغار استهدفوا وراثة زعامته فرموه بالانهزامية والخيانة؛ رغم استهدافه بقبول وقف اطلاق النار تمكين مصر من بناء حائط الصواريخ على ضفاف القناة استعدادا لحرب العبور والتحرير.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف