الأهرام
عباس شومان
الأزهر بين المحلية والعالمية
يخلط كثير من الناس بين كون الأزهر الشريف مؤسسة من مؤسسات الدولة المصرية وبين رسالته التى حملها على عاتقه خلال ما يقارب أحد عشر قرنًا من الزمان، فسرعان ما تتوجه سهام النقد إلى الأزهر حين يبين للناس الحكم الشرعى فى مسألة شرعية يجرى تناولها بالحديث هنا وهناك، ولا سيما عندما يكون مصدرها خارج حدود الدولة المصرية؛ حيث يرى هؤلاء أن تناول الأزهر لمسألة محل حديث فى دولة أخرى يعد تدخلًا فى شأنها الداخلى وفرضًا للوصاية على الآخرين، أفرادا ومؤسسات.

ونقد الأزهر وكَيل الاتهامات له بناء على ذلك نابع من نظرة سطحية لهذه المؤسسة العريقة وعدم معرفة بطبيعة دورها ومسئولياتها ورسالتها المحلية والعالمية، فضلًا عن الجهل بتاريخها الدينى والثقافى على مر العصور؛ فالأزهر يعتز بأنه إحدى مؤسسات الدولة المصرية، وتعتز مصر باحتضانها لهذه المؤسسة العريقة التى لا مثيل لها فى دنيا الناس عراقةً ورسالةً وموثوقية، وقد حُمِّلَ الأزهر الشريف دستوريًّا وإنسانيًّا عبر تاريخه الطويل بمهام جليلة تتجاوز حدود المكان وتتسامى على محدودية الدور، فمن دون إلزام ولا مطالبة يرى قرابة المليارين من المسلمين أن الأزهر الشريف هو مرجعيتهم الدينية المعتبرة، حتى من ينتمون إلى مرجعيات إسلامية أخرى لا يترددون فى الجهر بأن الأزهر الشريف يمثلهم، ولعل الملايين تابعت ذلك خلال فعاليات مؤتمر الأزهر العالمى عن الحرية والمواطنة، حيث أعلن فيه شخصية شيعية لبنانية بارزة أمام الحضور جميعًا قائلًا: أنا شيعى والأزهر يمثلني.

وما نال الأزهر هذه المرجعية إلا من خلال إدراكه عبر تاريخه الطويل لطبيعة رسالته وحقيقة دوره وقيامه على شئون التعليم والدعوة الإسلامية خير قيام، فهو يؤمن بأنه مؤسسة مصرية تحمل عبء الشأن الإسلامى فى الداخل والخارج، وحقيقة دوره تتمثل فى بيان صحيح الدين الإسلامى وحراسة شريعته من خلال البيان والتبليغ لا الفرض والوصاية، فكما أنه يأبى أن يلزمه أحد أو يفرض عليه وصايته فهو أيضًا يرفض سلطة الإلزام أو الوصاية على الآخرين، ولعل خير دليل على ذلك بعثات الأزهر المنتشرة فى أكثر من سبعين دولة لتعليم أبناء المسلمين والدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، حيث لم تشتكِ دولة واحدة من الدول التى يعمل بها أبناء الأزهر من تدخلهم فى الشأن الداخلى للدولة التى يعملون بها، ويدرس فى الأزهر عبر عقود من الزمان ألوف من الطلاب الوافدين من أكثر من مائة دولة حول العالم، وعندما يعودون إلى بلادهم يتولون مناصب مرموقة على الصعيد السياسى والدبلوماسى والثقافي، حتى إن بعضهم تولى الرئاسة فى دولته وبعضهم تقلد حقائب وزارية مهمة وبعضهم التحق بالسلك الدبلوماسى وأصبحوا سفراء لبلادهم فى كثير من دول العالم ومنها مصر التى تخرجوا فى أزهرها، ولم نسمع أن اشتكت دولة من أبناء الأزهر الذين درسوا فيه وتعلموا من مناهجه، بل إننا نطالَب دائمًا بزيادة عدد المنح الدراسية المقدمة من الأزهر ليلتحق أكبر عدد من أبناء المسلمين حول العالم بالدراسة فى الأزهر سواء فى مرحلة التعليم ما قبل الجامعى أو فى مرحلة التعليم الجامعى بكلياته المختلفة، وهذا دليل دامغ على التزام علماء الأزهر وأبنائه من الوافدين بحدود رسالتهم وطبيعة المنهج الأزهري، وهى البيان والتبليغ بالحكمة والموعظة الحسنة دون إلزام أو وصاية.

وثمة نقطة أخرى يتجاهلها أو يجهلها هؤلاء الذين يرون فى تناول الأزهر لمسألة دينية ما تجاوزًا من الأزهر لحدود اختصاصاته، وهى أن الشريعة الإسلامية وبيان أحكامها هى من اختصاصات الأزهر الرئيسة، وعلى الرغم من أن هذا الاختصاص ليس حكرًا على الأزهر بل تشاركه فيه جميع المؤسسات المتخصصة فى الشأن الدينى على مستوى العالم، فإن هذا الاختصاص ليس شأنًا داخليًّا للدول، بل إن شريعة الإسلام وبيان أحكامها أمر يخص كل المسلمين حول العالم. وفى هذا السياق، نذكِّر من تنفعه الذكرى بأن أحكام الإسلام منها ما يختلف باختلاف الزمان والمكان وأحوال الناس، ولذا يجوز لعلماء بلد ما فى زمان ما إعادة النظر فى هذه الأحكام للوقوف على مدى ملاءمة الحكم للزمان والمكان وأحوال الناس، ولا غضاضة من الاجتهاد فى هذه الأحكام لاستنباط حكم جديد وترك الموروث ولو ظل العمل به فى مكان آخر فى الزمان نفسه، ولا يجوز عندئذ للأزهر ولا غيره من المؤسسات الدينية الاعتراض على هذا الاجتهاد ولو خالف الحكمُ المستنبط الحكمَ المعمول به فى بلد الأزهر نفسه متى كان الاجتهاد منضبطًا بقواعد النظر وصادرًا عن علماء مؤهلين للنظر والاجتهاد. ومن الأحكام ما هو قطعى لا يحتمل تأويلًا ولا يقبل اجتهادًا، ومن ثم فهو لا يختلف باختلاف زمان ولا مكان؛ لأنه يناسب الزمان ويراعى أحوال الناس على اختلاف أماكنهم، وهذا القسم من الأحكام يجب على الأزهر وغيره من المؤسسات الدينية الرسمية والمجامع الفقهية المعتبرة الإنكار على من أخضعه للاجتهاد وبيان الحكم الصحيح فيه حمايةً للدين وحفاظًا على ثوابته وصيانة لشريعته. والعجيب والمريب فى الوقت نفسه أننا لا نسمع اتهام الأزهر بالتدخل فى شئون الآخرين إلا عند تصدى الأزهر لمحاولة تخريب شريعة الإسلام واختراق ثوابته، ولو كان الأزهر محلى الرسالة كما يحاول بعض أصحاب الآيديولوجيات والمآرب الخاصة تقزيمه وتأطيره فى هذه الزاوية الضيقة التى لا تناسب تاريخه ولا تتفق مع دوره ورسالته ولا تحقق مصلحة للدولة المصرية؛ فلماذا ينكرون على الأزهر مجرد تأخره فى إصدار بيان يندد بأى عمل إرهابى فى أى مكان فى العالم؟! ولماذا يستقلون تلك الجهود الحثيثة التى يبذلها الأزهر بالتعاون مع المؤسسات والهيئات المعنية لانتزاع فتيل الأزمات ومنع اشتعال الصراعات والعمل على إطفائها إن هى اشتعلت فى أى مكان فى العالم؟! ولماذا يطالبون الأزهر بتسيير قوافل طبية وإغاثية فضلًا عن تسيير قوافل دعوية باسم «قوافل السلام» تجوب العالم شرقًا وغربًا؟! لماذا لا ينكرون على الأزهر هذه الجهود وغيرها من جهود مضنية تتجاوز حدود الدولة المصرية وتدعمها الدولة المصرية من موازنتها العامة؟!

وكيل الأزهر الشريف

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف