جمال سلطان
لماذا يكرهون كل جميل في هذا البلد ؟!
مدينة الإسماعيلية واحدة من أجمل مدن مصر ، إن لم تكن أجملها على الإطلاق ، وهي مدينة صغيرة في مساحتها وفي عدد سكانها باعتبار أنها تأسست على منطقة صحراوية بالكامل ، حولها الفرنسيون والانجليز من بعدهم إلى واحة من الجمال ، باعتماد تنظيم جغرافي وإداري لها يتسم بسعة الطرق وحفظ مساحات واسعة من الخضرة والحدائق العامة فضلا عن ميراث من المباني ذات الطراز الأوربي المميز ، ولم يحدث أي تطور يذكر في المدينة عما تركه "الخواجات" إلى أن بدأت رحلة إعمار وتوسعة في نهاية السبعينات بعد انتهاء الحرب ، وهي مرحلة اختلط فيها الجيد بالرديء والمخطط بالعشوائي ، إلا أنها بشكل عام احتفظت لسنوات طويلة بسمتها ، خاصة في مرحلة "المعلم" عثمان أحمد عثمان وتولي "الشاب" عبد المنعم عمارة محافظا للمدينة .
الإسماعيلية مشاكلها بسيطة ، ونظرا لطبيعتها فإن أي تطوير لها يحتاج إلى وعي بالجمال وبالبيئة وخصوصية المكان ، وتمر بالمدينة ترعة الإسماعيلية ، أو "الحلوة" كما كان الأهالي يسمونها قديما ، وهي ترعة يصل اتساعها داخل المدينة حوالي عشرين مترا فقط ، ترعة صغيرة ، وكان يصل بين جانبيها عدة كباري صغيرة أغلبها معدني ، وتؤدي الغرض وزيادة ، لتتيح الفرصة على جانبيها للحدائق والخضرة والأشجار التي تضفي جمالا أخاذا على المدينة وتسحر زائريها وتفتح أفق الرؤية أمام العين لمسافات بعيدة بين الماء والخضرة .
فجأة ، تفتق ذهن بعض "المجهولين" عن خطة لتأسيس عدد من "الكباري" على تلك الترعة الصغيرة ، وبدلا من أن يتم إنشاء كباري صغيرة بشكل فني يليق بجمال المكان وصغر اتساع الترعة ، قاموا بإنشاء كباري خرسانية ضخمة تقارب ـ بلا مبالغة ـ كوبري قصر النيل في القاهرة ، وهي كباري ضخمة وطويلة وممتدة ويمكن تخيل إنشائها فوق نهر النيل أو فوق قناة السويس ، ويستحيل أن تتصور أن هذه الكباري ضرورية أو حتى تناسب "ترعة" صغيرة ، ما بين شاطئيها لا يتجاوز عشرين مترا ، وهذا "المجهول" الجاهل الظلامي والذي يفتقر إلى أي إحساس بالجمال أو التحضر ، كان مضطرا إلى قطع مساحات كبيرة من الأشجار على جانبي الترعة ، بعضها من الأشجار النادرة ، وبعضها يصل عمره إلى مائة عام وأكثر ، كما كان مضطرا ـ بداهة ـ إلى تصحير مساحات كبيرة من الخضرة التي كانت تضفي بهاء وسحرا على المكان ، وحولها إلى كتل خرسانية صماء كئيبة تمتد على مساحات كبيرة ، وتسد عين المارة عن رؤية القناة أو حتى رؤية الترعة الصغيرة نفسها ، فضلا عن "دفن" أي معلم من معالم التحضر في المكان .
هذا الذي يحدث الآن في الإسماعيلية لو حدث في أي بلد تعرف ألف باء "التحضر" أو يدرك مسئولوها أي قيمة "للبيئة" ، فضلا عن أن يملك أحدهم أي مسحة من الإحساس بالجمال ، لتم تقديم كل من شارك في تلك الجريمة إلى المحاكمة ، لأنه تخريب عمدي للمدينة ، وتشويه لتاريخها ، وطمس لمعالمها ، وإضرار ببيئتها ، واعتداء على ميراث الأجيال من الأشجار والمساحات الخضراء .
لا أعرف ، لماذا يكره هؤلاء أي شيء جميل في هذا الوطن ؟ ، لماذا يحرصون على زراعة القبح والكآبة في كل ركن من أركانها ، لماذا يعز عليهم أن يتركوا لنا مساحة خضراء نتنفس فيها صحة أو هدوء أو راحة للعين والبال ، من أين يأتون بتلك العقول الكئيبة والمتخلفة لإدارة مشكلات المدن باسم التطوير ، فتذهب بها إلى أسوأ أحوالها وأكثرها بؤسا وقبحا .
يملأني الإحساس بالمرارة وأنا أقول وأكرر ، أن كل شيء جميل وحضاري في "الإسماعيلية" هو مما تركه الفرنسيون والانجليز "المحتلون" ، وكل قبيح ومتخلف ورديء فيها هو مما "أنجزه" بعض المسئولين والقادة المصريين الذين افتقروا إلى أي إحساس بالجمال أو فهم للحضارة وقيمتها ، وسقف "ثقافتهم" أن الحضارة هي خرسانة وطوب وسيراميك وألعاب نارية .
أبعدوا هؤلاء الجهلة الظلاميين عن أي خطط لتطوير المدن ، أنقذوا مصر من هؤلاء "الهمج" الذين يدمرون ما تبقى لها من إرث حضاري أو جمالي .