الوطن
رجائى عطية
بين العلمانية والإسلام (1- 7)
درج البعض على اتخاذ العلمانية مبدأ وشعاراً ووسيلة وغاية، وعلى خوض ما اعتبروه مواجهة مع الإسلام، بدعوى أن العلمانية والإسلام ضدان لا يجتمعان، وأنهما إذا اجتمعا لا يتمازجان، وأنه لا مفر مما اعتبروه رجعية وتخلفاً وجموداً فى الإسلام، من دفع العلمانية لتدارك هذه المثالب، والخروج بالإسلام والمسلمين من وهدة هذه الآفات، إلى باحة العقل والعلم والنور.

وليس هذا النظر صحيحاً، ويأتيه الفساد من زاويتين: زاوية منشأ العلمانية والأسباب التى دفعتها فى أوروبا فى العصر الوسيط لمقاومة الهيمنة والسلطة الكنسية، ومصادرتها على الفعل وأوجه النشاط الإنسانى الذهنى والمادى، والزاوية الثانية تركن إلى منهج العلمانية الذى واجهت به السلطة الدينية وما دفعت إليه من تحجر وجمود يستدعى فتح نوافذ الحرية أمام العلم والمعطيات العقلية.

ولست أسبق إلى النتائج قبل المقدمات والبراهين، إذا أبديت من الآن أن كلاً من هاتين الزاويتين غير صحيح بالنسبة للإسلام والمجتمعات الإسلامية، حتى فى عهود التراجع والهبوط والانحطاط، لسببين: أولهما أنه لا كهانة ولا سلطة دينية فى الإسلام، وثانيهما أن الإسلام يحمل فى بنيته كافة المقومات والعناصر بل وزيادة التى تغنت بها العلمانية من مقاومة الآفات الناجمة عن السلطة والهيمنة الدينية فى أوروبا، من تحكم ومصادرة وجمود وتحجر، ومن ثم فإن المجتمعات الإسلامية لديها فى بنية الإسلام ومقوماته ما يغنيها عن اللجوء إلى حلول من خارجه، سواء كانت العلمانية أو سواها!

نشأة العلمانية فى أوروبا

نشأت العلمانية (بفتح العين) وصيغت فى أوروبا كمقابل لـ«المقدس» بمعناه الكنسى اللاهوتى الكاثوليكى، وكمقابل أيضاً لما هو «دينى وكهنوتى» يتسم بالجمود الرافض للتغيير و«التجريد» على نحو عانت منه أوروبا فى العصور الوسطى المظلمة.

وقد رفض أنصار العلمانية فى أوروبا «الدولة الدينية»، و«المجتمع المقدس»، و«المؤسسات المقدسة»، و«الأكليروس المقدس» أى النظام الكهنوتى الخاص بالكنائس المسيحية الذى ظهر فى القرن الثالث الميلادى، ومن سماته سلطات أعلى للبابا فى الكنيسة الكاثوليكية عن نظيره فى الكنيسة الأرثوذكسية، على خلاف البروتستانت الذين لا يعترفون إلاَّ بدرجتين فقط من درجات هذا النظام وهما «القس والشماس»، كما رفض هؤلاء العلمانيون سلطة الكنيسة «المقدسة» وفكرها المسبغ عليه قداسة هيمنت وصادرت على أنواع النشاط البشرى الذهنى والمادى فى أوروبا فى ذلك الأوان.

ولا يوجد فى المجتمع الإسلامى نظائر مقدسة مثل هذه النظائر التى قاومتها العلمانية فى أوروبا، فلا محل للدولة الدينية، والكيانات والمعاهد الإسلامية مراكز تخدم العلم ولا تتمتع بقداسة ولا بسلطة مقدسة، فالأزهر الشريف مثلاً، وعلى مدار أكثر من ألف عام، تمتع فيها بمكانة علمية تعليمية، تتفاوت من عصر لآخر، إلا أنه ليس سلطة مقدسة بأى معيار من معايير التقديس، ومن ثم فإن المجتمع الإسلامى بعناصره لا يوجد به ما يستوجب أو يبرر العلمانية مثلما كان حادثاً فى أوروبا.

لقد فرض سلطان الكنيسة الكاثوليكية فى أوروبا فى العصر الوسيط، وهيمنتها على الأقدار والنشاطات المختلفة، فرض ما استدعى انطلاق العلمانية لمقاومة الهيمنة والجمود والإحياء الحضارى لأوروبا.

ومع التسليم بأن المجتمعات الإسلامية لم تخل فى كل العهود من آفات تستوجب العلاج، إلا أن سبله موجودة فى بنية الإسلام، ولا تحتاج إلا إلى تفعيل دون أن تكون بحاجة إلى استيراد علاج من خارج هذه البنية المشتملة على جميع العناصر اللازمة لذلك العلاج، ما بين التنويه بالعقل، وبإفساح المجال أمامه للتفكير وتحصيل العلم وتطبيق أسسه بما يعود بالنفع على المجتمع.

لم يكن أمام العلمانية فى أوروبا بالعصر الوسيط، سوى عزل الدين والكنيسة عن شئون المجتمع وسياساته ومؤسساته لبناء الدولة الحديثة ودعمها، مما اقتضى تصفية اللاهوت الكاثوليكى وتنقيته من كل ما هو غير عقلانى، بينما العقل مَعْلم من معالم الإسلام ذاته، والتفكير فريضة فيه، ولا محل من ثم لأى سعْىٍ من خارجه إلى إصلاح، لأنه قائم واقع فى بنية الدين.

فإذا كانت الدولة العلمانية هى المقابل للدولة الدينية، والمجتمع العلمانى هو المقابل للمجتمع المقدس، وكان الإسلام لا يعرف الدولة الدينية ولا المجتمع المقدس، لأنه لا كهانة فى الإسلام، ولا وساطة بين الإنسان وربه، بات جلياً أن المجتمعات الإسلامية لم يلزمها ما لزم المجتمعات الأوروبية فى العصر الوسيط.

والجمود الذى عانت منه أوروبا فى العصر الوسيط، واحتاج إلى نهوض العلمانية لكسره والتقدم بالحضارة الإنسانية، يقاومه الإسلام ذاته، حيث هو بنية حية متجددة، تنادى بالتجديد، ويقول نبيه عليه السلام: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها»، وأُثِرَ عن الفاروق عمر بن الخطاب أنه كان يقول للمسلمين: «لا تقفوا بتعليم أولادكم عند علومكم، فإنهم قد خلقوا لزمان غير زمانكم!».

هذا وغير مقبول فى المجتمع الإسلامى، نزعة العلمانية إلى عدم الاهتمام بالقيم المرتبطة بالنزعة التقليدية أو الاتجاه المحافظ، فالإسلام وإن كان التجديد جزءاً من بنيته الحية، إلا أنه يفرق عن فهم بين القيم الإيجابية فيقبلها، ومعوقات التطور والتقدم فيرفضها.

وخلاصة هذه الفوارق الواضحة، أنه لا محل للعلمانية مع الإسلام، لأن الإسلام يغنى بمقوماته عنها، ويفتح سُبلاً للمسلمين للتزود والاسترشاد بقيمه وهديه.

ولا يعنى ذلك أن العلمانية والإسلام متطابقان، ذلك أن هناك من التنظير العلمانى ما ينكر ما تضمنته الأديان من أصول، وذلك جانب مرفوض كل الرفض فى هذه العلمانية، فالتحديث والحداثة لا يقتضيان إعدام الدين أو تحنيطه أو تحويله إلى متحف، فالأديان قوامها الإيمان الذى لا تغنى عنه العلمانية، وإقرار «الحق الطبيعى» لا يعنى أن يحل محل «الحق الإلهى»، وإقرار القوانين الوضعية والحاجة بحكم التطور والمستجدات إلى بعضها، لا يقتضى إنكار ما تضمنته الأديان من تشريعات ومبادئ وأصول لا يحسرها تلبية بعض المتطلبات ولا ينفيها التجديد فى الفكر والخطاب الدينى، هذا فضلاً عن أن الأديان تتميز بأنها سقف لضبط السلوك الإنسانى لا تستطيع العلمانية ولا القوانين الوضعية مهما اجتهدت أن تقوم مقامه، أو تحقق الأثر الذى له فى الضمائر حتى لدى من يستهويهم الإلحاد وإنكار الأديان.

مظلة القوانين الوضعية لا تكفل تغطيةً للضمير الضابط للسلوك الإنسانى سيما الذى يستطيع سالكه أن يستخفى به عن عيون الناس، وعن المسئولية والعقاب، وتبقى الأديان مغطيةً لهذا الجانب الذى لا غنى عنه فى عالم الضمير، وهو البوصلة الحية النابضة التى تكفل الوقاية من الاعوجاج والجنوح!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف