الجمهورية
صالح ابراهيم
المقهي بين التسلية والانضباط
* منذ حوالي 60 عاماً عندما بدأت مشواري في بلاط صاحبة الجلالة.. كان أستاذنا الكبير المرحوم جلال الدين الحمامصي مشرفاً علي ملحق الأسبوع.. الصادر مع الجريدة.. طابعه أقرب إلي المجلة.. بين صفحاته موضوع الأسبوع الذي يقترحه القارئ وينفذه المحررون.. أذكر ان أول موضوع شاركت فيه كان عن المقاهي المنتشرة بسرعة وتأثيرها علي حركة الإنتاج والآن بعد هذه المدة "تتوحش" المقاهي أنواعا ونشاطا وأماكن.. تجدها في كل شارع وميدان.. تحتل مقاعدها نهر الشارع نهارا.. وتظل مفتوحة ليلاً إلي ما شاء صاحبها وزبائنها.. وكلما قابلها تحديث أو موضة.. كافتيريا أو نافريتا.. أو حديقة شاي.. تدفق إليها عدد من الزبائن الجدد.. الشباب الباحث عن فرصة عمل.. يشغل وقته بالنت.. أو أولئك الذين أخرجتهم الخصخصة من أعمالهم مبكراً.. ولم يتعودوا بالطبع علي جلسة البيوت.. وأخيراً وليس آخراً الإقبال الشديد لهواة مشاهدة مباريات كرة القدم المحلية والعالمية.. واحتشادهم في مقاه تحمل اسم الأندية الكبري.. معهم الاعلام.. ينقل صدي أصواتهم نبأ الأهداف.. والفوز والهزيمة للبيوت المحيطة.. وهي ظاهرة ربما كانت تعويضاً عن عدم السماح للجماهير بحضور المباريات.. بدليل ان الكثير من هذه المقاهي ترتادها الأسرة كاملة.. وليس عاشقي الساحرة المستديرة وحدها.. ومنها تنطلق مواكب الاحتفالات بعد نهاية المباريات.
** جميع المقاهي طالما بداخلها شاشات العرض العملاقة.. تعتبر مشاهدة المباريات موسم ومصدر إضافي للرزق.. تفرض تسعيرة معينة للتواجد.. بالإضافة إلي مضاعفة سعر الطلبات بل ان مقاهي التجمعات السكانية الحديثة والأحياء الراقية والموجودة بالفنادق.. تفرض حدا أدني من المال علي الزبون سداده سواء استهلك به مشروبات أم لا.. ومع الفوران والإقبال الأسطوري الذي ظهر مؤخراً في محيط المقاهي وتنقله الفضائيات من أنحاء المحروسة.. وما حدث من مصرع المواطن محمود بيومي في أحد مقاهي مصر الجديدة.. واهتمام الرأي العام به فتح المسئولون الملف.. باحثين بالطبع عن الانضباط والتراخيص.. وإزالة تلك التي تعدت في أعقاب ثورة يناير علي الحدائق الصغيرة ومتخللات المساكن.. بل واختبأت في زقاقات وسط العاصمة.. نظموا الحملات وتعهدوا باستمرارها.. مع حصر شامل للأعداد يوفر قاعدة بيانات.. يضع هذا النشاط في موقعه الطبيعي.. مكان محترم لقضاء أوقات الفراغ وتبادل الآراء.. والتنافس في الطاولة والدومينو والكوتشينة بشرط البعد عن المراهنات مع تنفيذ باقي شروط الترخيص.. وأهمها موعد محدد للتشغيل والإغلاق.. عدم الاعتداء علي نهر الشارع ومنع الاشغالات.
** ان المقاهي التي تفرع عنها الاستراحات والغرز علي الطرق الطويلة والبوفيهات بجميع الأنشطة والمؤسسات.. لبعضها مكانة مهمة.. يمكن استثمارها في الترويج السياحي.. أو لها تاريخ يرتبط بالنضال ضد الاستعمار.. وبعضها تجاوزت مهمته كلقاء للصحبة خارج البيوت إلي الاستنارة الثقافية مثل مقهي المسيري في دمنهور.. والمقاهي التي جلس عليها مشاهير الكتاب والأدباء من الدراويش الفيشاوي ومتاتيا وحتي علي بابا درويش وأم كلثوم.. بعضها تخصص لجمع فئة بعينها.. مثل مقهي الكومبارس بوسط القاهرة.. ولم تستطع الأندية التي أقامها المهنيون علي النيل أن تسحب زبائن المقهي التي تحول بعضها إلي كازينوهات أو كافيه علي الطريقة الباريسية أو اليونانية.. وكانت في الأحياء الشعبية مقراً للفتوة حامي الحمي له مكانه ومساعدوه.. والصبي المخصص في تلقي الطلبات.
** المقاهي تعود إلي العصر العثماني.. تخضع لإشراف الملتزم.. مقابل رسم يسدد أول كل عام هجري.. موسم الإقبال عليها هو رمضان حيث الشهر أمنية الجميع.. ويرتادها أفراد الطبقة الوسطي والتجار.. وتسعيرة فنجان القهوة 5 فضة والكنكة "3 أكواب" بعشرة فضة.. بالإضافة إلي سعر مختلف لحجر الشيشة والجوزة.. وجاء ذكر المقهي في كتاب علماء الحملة الفرنسية "وصف مصر" بإحصاء 1200 مقهي بالعاصمة و50 بمصر القديمة و100 في بولاق.. وكان بها أماكن مخصصة لرواية السير الشعبية"كنوع من الترويج" التي شكلت تراثنا الثقافي الآن.. ومع الاحتلال البريطاني بالذات.. خرج من رحم المقهي.. البارات التي تخصصت في المسكرات والخمور.. وما زال هناك بعض المقاهي التي تقاوم النسيان.. مثل مقهي التجارة بشارع محمد علي.. وبالقرب منه مقهي الكتب خانة.. كما تخصص مقهي بلدي خلف دار الكتب القديمة في تقديم مصارعة الديوك لرواده.. ومن المؤكد ان للمقهي إيجابيات عديدة.. رغم حادث مصر الجديدة المؤسف.. يكفي انها مكان للقاء الأصدقاء والزملاء.. خارج أوقات العمل.. وليس ذنبها أن يجلس عليها المزوغون من أعمالهم.. فهذه قضية توعية خارج نطاق الاختصاص.. وحتي بالنسبة للأنشطة الثقافية والمجالات المفيدة.. فإنها مسئولية الجالس علي المقهي وحسن اختياره للمكان والاطمئنان للرواد.. وان تأهيل نشاطها وتنظيم عملها يصب في صالح الاقتصاد.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف