لا يدرك الإحساس الذى عاشه المصريون خلال الفترة التى امتدت من هزيمة يونيو 1967 وحتى نصر أكتوبر المجيد 1973 إلا مَن عاصر هذه السنوات الصعبة فى حياة هذا الشعب.
كان الإحساس بالهزيمة مراً.
وزادت من مرارته مجموعة من العوامل، أولها أن الجندى المصرى لم يخُض حرباً حقيقية، وإنما سيق الجنود إلى الميدان فى ظل حسابات سياسية غير دقيقة تفوقت فى تأثيرها على الحسابات العسكرية، كذلك ذهب أغلب من تناولوا حرب 1967 بما شهدته من أحداث جسام فى تاريخ هذه الأمة، العامل الثانى اتجاه إسرائيل إلى ضرب العمق المصرى، حدث ذلك حين قصف الطيران الإسرائيلى مدرسة بحر البقر ومصنع أبوزعبل، مما كان له تأثير سلبى على معنويات المصريين، الأخطر من ذلك ما كشفته الحرب من اختلال فى الأداء داخل العديد من المؤسسات.
كانت حرب الاستنزاف فى ذلك الوقت هى مساحة الأمل الكبرى التى تشبث بها المصريون، تلك الحرب التى أثبت فيها جنودنا بالبيان العملى أنهم لم يحاربوا فى 67.
لو أنك تأملت أياً من الروايات التى سجل فيها نجيب محفوظ الواقع الاجتماعى الذى عاشه المصريون خلال هذه السنوات الست فبإمكانك أن تدرك ما عاشه المصريون حينذاك.
اقرأ رواية «الحب تحت المطر» ستجد أنه شخص فيها حالة انعدام الوزن التى أصابت أبطال العمل، فى الحب والعمل والحياة بشتى نواحيها، ولو طالعت المجموعة القصصية «تحت المظلة» ستجده يركز فيها على حالة العبثية التى ضربت مشاهد الحياة فى مصر بعد الهزيمة، فأحالت الخيال إلى حقيقة، وأصبح الواقفون تحت المظلة محتارين فيما يشاهدون، حين تتدفق أمامهم فى الواقع مشاهد غير واقعية بالمرة، فيشعروا فى أنفسهم أنهم أمام لحظة حلم، أو لحظة سكر أفقدتهم الوعى.
ولو استعرضت الجزء الذى يتناول فيه «محفوظ» فترة الهزيمة فى رواية «الباقى من الزمن ساعة» فسوف تلمح الأحاسيس المتباينة التى ضربت أبطال العمل، فجعلت الإخوانى يشمت فى جمال عبدالناصر، متناسياً الوطن الذى اقتطع جزء من جسده، والمصريين الذين هرعوا إلى الشوارع يطالبون بالإبقاء على الزعيم المهزوم، لينهالوا عليه بأقذع النكات فيما بعد، وبعض أفراد الجيل الجديد الذى أصابه اليأس مما يحدث فأصبح يبحث عن أى فرصة للخروج من هذا الوطن.
ما بين انعدام الوزن، والإحساس بعبثية الأشياء والأحداث، وعدمية الوجود، والإحساس بالمرارة، وجلد الذات تراوحت مشاعر المصريين. كانت فترة كئيبة أحسسنا بمدى كآبتها فى عيون الكبار، حين كنا صغاراً نقف على عتبات الحياة فى المدارس. شاهدنا رجالاً كباراً يبكون من فرط الإحساس بالوجع بعد ضرب مدرسة بحر البقر، شاهدنا «خناقات» تتم لأتفه الأسباب، سمعنا لعناً لكل شىء وأى شىء، سمعنا صرخات تعبر عن لا شىء، كانت الكلمة الأكثر تردداً على لسان الجميع، وتجدها مكتوبة على السواتر التى كانت توضع أمام البيوت وحوائط المبانى فى الشوارع هى كلمة «هنحارب»، لكن متى وكيف؟ لم يكن أحد يعلم. الجميع كان قد اتخذ القرار باسترداد الأرض، لكنهم مكثوا هناك على الجبهة وهنا داخل المدن والقرى فى انتظار اللحظة التى يتخذ فيها الرئيس أنور السادات القرار.