الأخبار
رفعت رشاد
حريات - الذين عبروا.. والذين هبروا
عنوان المقال تعبير عن العقل الجمعي للمصريين الذين كعادتهم استخدموا سخريتهم في توليف و( تسجيع.. من السجع ) الكلمات.. لتعطي المعني المناقض، فالذين عبروا سجلوا بأرواحهم أروع السطور في سجل النصر وسجل الشهداء والصديقين.. أما الذين هبروا فسجلوا أسماءهم في صحبة راقصات شارع الهرم وفي البنوك وشركات الاستثمار الوهمي وفي كل ما طالته أيديهم بعد النصر في أكتوبر العظيم.
تهل علينا هذه الأيام ذكري النصر الوحيد الذي سطره العرب في الزمن المعاصر والذي كان كصحوة الموت حيث عاد بعدها العرب إلي زمن الانكسار والانحسار. جاء انتصار أكتوبر كلحظة تجل للمصريين الذين ظهر معدنهم المصقول منذ آلاف السنين بعد أن ذاقوا مرارة الهزيمة في 1967. لم تمر أيام بعد الهزيمة إلا وكان جنودنا أبناء العمال والفلاحين يكبدون العدو الغالي والرخيص مضحين بأرواحهم في سبيل عزة وكرامة وطنهم. هؤلاء الذين وصفهم الشاعر بأنه عساكر مصريين.. دولا ولاد الفلاحين.. هم الذين قال عنهم القادة إنهم كانوا السلاح السري في الحرب والذي لم يتوقعه أحد.. وهم السلاح الفعال الذي جاء بالنصر. بسطاء في مظهرهم.. فقراء في معيشتهم.. جاءوا من أصقاع الوطن يحملون بداخلهم عزيمة زحزحت الجبال وعبرت الموانع ورفعت راية النصر عالية خفاقة.
كان النصر للوطن ولكن مكاسبه لم تكن لكل أبناء الوطن. بعد النصر ارتفع سعر البترول العربي واتخذ السادات قرار الانفتاح الاقتصادي وأطلق مقولته : »من لن يغتني في عهدي.. لن يغتني أبدا»‬.. وكأن هذه العبارة كانت كلمة السر مع الانفتاح السداح مداح -أحمد بهاء الدين- فانطلق الانتهازيون في كل مكان في مصر ليجنوا ثمار ومكاسب النصر. ارتفعت أرصدتهم في البنوك واستولوا علي أراضي الدولة بوضع اليد وأنشأوا شركات وهمية للاستثمار للاستفادة من الإعفاءات بأنواعها وتاجروا في العملة الأجنبية وأوجدوا أنماطا جديدة للاستهلاك فظهرت طبقة خليط من عناصر رأسمالية قديمة كانت موجودة قبل ثورة يوليو وحجمتها الثورة فتم استدعاؤها في السبعينات فأعادت هذه الطبقة التحالف مع البرجوازية البيروقراطية لتحقيق المزيد من التحول الرأسمالي وانصهر مكون الرأسمالية القديمة والبيروقراطية مع رافد رأسمالية السبعينات المشوه حديث الولادة حديث الثراء في بوتقة واحدة ليشكوا جميعا ميلاد نخبة رأسمالية جديدة.
بعدما انتهت الحرب عاد ولاد المصريين من الضباط والجنود من الجهاد الأصغر إلي الجهاد الأكبر، جهاد في مواجهة ظروف المجتمع المتحول إلي الرأسمالية التي تنهش في جسد المجتمع، جهاد ضد طبقة الطفيليين التي طفت علي السطح بسياسات ساداتية وأعادت الطبقية المقيتة إلي مصر. احتلت الطبقة الجديدة صدارة المشهد في كل شيء بينما علي سبيل المثال هناك البطل صائد الدبابات الذي عاني سنوات من أجل الحصول علي شقة وترخيص بفرن يتكسب منه قوته. وجدنا من يعود من الحرب بعاهة جسدية فتقف عائقا أمام مستقبله وتسد طريقه للحصول علي وظيفة بينما هناك من تحول بفهلوته والاتجار في العملة أو اللحوم الفاسدة إلي نجم مجتمعي يسعي الجميع لكسب وده.
كتبت في الثمانينات في جريدة صوت العرب عمن يستحق شرف المواطنة.. هل يستحقها الذين عبروا.. أم استولي عليها الذين هبروا.. ؟! في المجتمعات الغربية يصفون الضابط أو الجندي الذي شارك في حروب بلاده وساهم في تحقيق النصر بأنه بطل حرب.. يحرص مجتمعه علي أن يكون في مقدمة الصفوف.. بينما في مصر تراجع المنتصرون إلي خلف الصفوف ليشغل الذين هبروا كل الصفوف.
أظهرت حرب أكتوبر معدن الرجال والقادة فظهرت البطولات التي حققت النصر وعرفنا قادة عظاماً في كل فروع القوات المسلحة سيذكرهم التاريخ دائما كما لابد من التأكيد علي أن النصر لم يكن وليد اللحظة بل كان تجسيدا لهبة مصرية اشتاق إليها شعب مصر لقرون طويلة.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف