الجمهورية
زياد السحار
عذوبة "العزبي" ومازالت الكلمة ممكنة
أشعر أن قلبه.. وقلمه.. لم يطاوعاه كثيراً في غيابه عن محبيه وعشاق كلماته الصحفية الآثرة في مقاله الأسبوعي كل خميس بجريدة الجمهورية.
كنت أستشعر مع إلحاحنا الدائم عليه لكي يعدل عن قراره باعتزال الكتابة. حنيناً. وشوقاً للكلمة والقلم. ورغبة في التعليق علي مجريات الأحداث حتي ولو من داخل البيت الصحفي الذي لا يمكن لكاتب عريق مثله أن يغيب عنه.
وفي نفس الوقت كنت أستشف ألماً وشعوراً بالذنب تجاه كل زملائه الكبار والصغار علي السواء ــ وهو الإنسان رقيق القلب مرهف المشاعر الذي لا يريد أن يخذلهم ويرد لهم طلباً.. فكان الحل المفاجأة الذي حقق به المعادلة الصعبة بين رغبته الشخصية في الاعتزال. وإلحاح قرائه بأن قدم لهم وجبة دسمة لذيذة تمثلت في كتاب شيق من عالم الصحافة والسياسة والذكريات بعنوان "صحفيون غلابة" يعوضهم به عن فترة الغياب الذي يرجون منه أن يكون مقدمة لمعاودة الكتابة ولو دون دورية أو انتظام.
وفي كتابه الذي تناول الكاتب الكبير الأستاذ محمد العزبي الكثير من الموضوعات التي تثير الشجن أحياناً مثل حديثه عن الصحافة ليست القومية فحسب بل المنافسة لها من الصحف الخاصة والمأزق الذي نعيشه كلها وسط ضغوط اقتصادية وسياسية تشكل معاناة للصحافة تجعلها مهددة بالانهيار كاشفاً أسراراً قد تكون جديدة علي القارئ بأن بعضها تشرف عليها بعض الأجهزة.. ولكنه رغم ذلك يحمل شعاعاً من الأمل بأن الطريق أمامها ليس مسدوداً ولكنه مفتوح فقط أمام الحلول الجديدة المبتكرة.
وأعتقد أنني أشارك الكاتب الكبير بأن الكلمة مازالت ممكنة رغم هجمات وسائل الإعلام الجديدة خاصة فضايات المساء والليل التي يعد كل برنامج منه صحيفة سهلة علي القاريء تتناول كل مجريات الأحداث ومعها المواقع الإلكترونية التي تحمل في التو واللحظة كل جديد من خلال التليفون المحمول الذي يحمله كل الناس الآن في وسائل المواصلات العامة بديلاً عن الصحف التي كانوا يمسكونها بين أيديهم يطالعون موضوعاتها ويسرقونها من بعضهم البعض عند ذهابهم إلي مواقع عملهم.
أتصور أن الكلمة مازالت ممكنة إذا كانت من نوعية كتابات الأستاذ العزبي قصيرة سريعة شيقة وشقية أيضاً تداعب فضول القارئ خاصة إذا كان من عشاق الثرثرة البريئة وأسرار الحكم من كل العصور من أزمان فاروق وجمال وعبدالناصر والسادات ومبارك وابنه جمال وحتي مرسي وأيضاً أعضاء وقادة رؤساء التحرير الذين عمروا طويلاً في بلاط صاحبة الجلالة من أمثال الكبار محسن محمد وسمير رجب و"بينهما" محفوظ الأنصاري وحتي زمن محمد علي إبراهيم وأخيراً أحمد النجار الذي قدم استقالته قبل أن يقال من مقعد أهرام هيكل وهم جميعاً لا يدركون أنهم جلسوا علي "خازوق" مقعد رئيس التحرير علي حد تعبير مصطفي أمين وهو يهنيء أنيس مصنور عندما رأس تحرير مجلة "الجيل".. إلا أنهم لم يكتشفوا أن السلطة قد استهلكتهم إلا بعد أن تركوا مناصبهم أو هم علي فراش المرض مثلما اعترف بذلك موسي صبري لأحمد عباس صالح.. أطال الله في عمر الباقين منهم وقد راجع البعض نفسه وبدأ يأخذ صف المواطن البسيط بعد أن كان بوقاً للسلطة بالحق والباطل!
وفي كتاب العزبي محاور كثيرة تنم من عنوانه "صحفيون غلابة" تؤكد مقولة "الصيت ولا الغني" وهذه التجربة مر بها كل الشرفاء منهم ــ وهم كثر ــ يعيشون علي مرتباتهم المتواضعة ينتظرون ما كان يطلق عليه "بدل إعاشة" أثناء مهماتهم الصحفية حتي ولو كانت مع رئيس الجمهورية ينفقون منها علي وجبات الطعام في عهد الرئيس السادات ورئيس هيئة الاستعلامات الدكتور مرسي سعد الدين في أواخر السبعينيات وهو ــ شقيق الملحن المعجزة بليغ حمدي ــ قال له الرئيس السادات "إن المرافقين لسيادته مدعوون في اللوكاندة علي حسابكم اعطي كل واحد منهم ثمن الأكل طول اليوم وقهوة كمان.. أنا مش عايز حد يصرف حاجة من بدل السفر علي الرحلة. خللي بدل السفر يشتروا بيه حاجات لأولادهم.. الصحفيين دول أغلب من الغُلب!!".. وما لم يذكره الأستاذ أن بدل الإعاشة المتواضع هذا قام بإلغائه الدكتور علي لطفي رئيس الوزراء في بداية عهد مبارك رغم إلحاح الدكتور ممدوح البلتاجي رئيس هيئة الاستعلامات خلال الثمانينيات ــ رحمه الله ــ علي استمراره ولكن الترشيد دائماً لايسري إلا علي الغلابة فقط.. وربنا يستر علي بدل التدريب الذي تصرفه الحكومة للصحفيين وهو يعد المرتب الفعلي خاصة للصحفيين الشبان الذين يتم تعيينهم ــ صدِّق أو لا تصدق ــ بـ 250 جنيهاً فقط.. وأحياناً بدون أجر علي الإطلاق في بعض الصحف التي تُعرف بصحف بير السلم مقابل إعطائهم خطاباً للقيد بالنقابة!
الكتاب ممتع وثري للغاية يحتاج لقراءته كاملاً أكثر من مرة وهو يشبع القاريء النهم لكل ما يتعلق بتاريخ الصحافة وأيضاً حكاوي وكواليس الزمن الجميل من حكايات سياسية وفنية تجمع بين نجيب الريحاني وليلي مراد وأنور وجدي.. وأيضاً حكايات من سجن مزرعة طره الذي رافق فيه العزبي زميل الحبس سيد حجاب في زمن عبدالناصر حيث كانت تذيع إذاعة السجن أغنية "ياما زقزق القمري علي ورق الليمون" بصوت ماهر العطار والشاعر سيد حجاب صاحب هذه الكلمات يقول فرحاً حزيناً: "كلماتي بس القمري بيزقزق وصاحبه إيديه في حديد".
ولكن الأستاذ العزبي رغم ما حمله كتابه الممتع من متاعب المهنة وشجن التجربة يأبي إلا أن يحمل الأمل للقارئ وللأجيال الجديدة الواعدة في بلاط صاحبة الجلالة مع آخر فصل في الكتاب ويعرض لأسماء المجلات التي تدل علي نوايا أصحابها خريجي قسم إعلام بكلية اداب جامعة حلوان في مشاريع تخرجهم عام .2017
ويختتم الكاتب مؤكداً أنه لا يمكن أن يفتح عيونه في الصباح إلا علي قراءة الصحف لمعرفة بعض ما يجري في المحروسة.
يتساءل: هل يمكن أن يحيا الإنسان بدون صحيفة تنكد عليه عيشته؟
حفظ الله الكاتب العذب الجميل الأستاذ محمد العزبي.. ومتعنا دائماً بكتاباته الشيقة المثيرة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف