كما لو كنا بلا أسرار، وبالتالى نعرف كل شىء، لم نجد من يفتح ذات يوم الملفات الحقيقية لحرب أكتوبر ١٩٧٣، لا نعنى هنا بالطبع ما يرويه الخبراء والاستراتيجيون ممن لم يشاركوا فى الحرب بصفة خاصة، بالتأكيد نعنى الملفات الرسمية للحرب، الاستعدادات للحرب كما تم توثيقها، فاعلية الضربة الجوية الأولى بالأرقام والتفاصيل، أداء الأسلحة الأخرى كذلك، الثغرة وكيف حدثت، وما إذا كان تم التحقيق حولها، وعلى من تقع المسؤولية، وكيف حدث هذا التطور المريع، وقف إطلاق النار وما هى ملابساته، فك الاشتباك، قواعده وشروطه، إلى آخر ذلك من كثير.
بدا واضحاً أن كل ما نعرفه عن حرب أكتوبر روايات واجتهادات، حتى لو كانت فى بعض الوقت من شهود عيان، على الرغم من أن العالم يفتح رسمياً ملفاته ووثائقه، حسب نظام كل دولة، بعد سنوات محددة قررها الدستور أو القانون، قد تكون عشر سنوات، وقد تكون ثلاثين عاماً، لكن للأسف، مع كل ذكرى للحرب نكتشف أن معظم ما يتم تسريبه يأتى عن طريق الإعلام الإسرائيلى، ممن يتم الكشف عنه بالطريق الرسمى هناك، ونظل نحن نسهر من خلال شاشات التليفزيون مع روايات شخصية أو بطولات فردية، بعيداً عن التاريخ كتاريخ، أو عن سيرة الحرب بتفاصيلها الاستراتيجية والسياسية وحتى العسكرية الشاملة.
بالتأكيد لا يمكن ولا يجب اعتماد العقل المصرى الجمعى أو حتى الفردى، على ما تسمح إسرائيل بتسريبه، حتى لو كان يتحدث عن بطولات مصرية، أو عن خداع استراتيجى سبق الحرب، ذلك أن إسرائيل لن تسمح أبداً بنشر ما يضر أمنها القومى، لذا فإن لديهم الكثير حتى الآن من أسرار حرب ١٩٦٧ مما لايزال طى الكتمان أو السرية، رغم مرور ٥٠ عاماً، ذلك أن أخطر ما فى ملفات تلك الهزيمة هو ما حصل عليه العدو من معلومات أسفرت عن قصف كل المطارات والطائرات تقريباً خلال فترة وجيزة من صباح ٥ يونيو، ما كان سبباً رئيسياً فى كل ما جرى بعد ذلك، وسقوط سيناء تحديداً.
على سبيل المثال، ومع كل مناسبة تسعى إسرائيل للتأكيد على عمالة أشرف مروان للموساد، وتقديمه خدمات جليلة فى هذا الشأن، باعتباره كان صهر الرئيس عبدالناصر، ومدير مكتب الرئيس السادات فيما بعد، لدرجة أنهم شككوا الرأى العام لدينا فى الروايات المحلية، فى غياب رواية رسمية تضع النقاط على الحروف، أخيراً وقبل عدة أيام ظهر أحد جنرالاتهم يروى أن معلومات حصلوا عليها من أحد المسؤولين مع الأيام الأولى لحرب ١٩٧٣ غيرت مسار الحرب، فى إشارة إلى الثغرة، التى مازالت لغزاً حتى الآن.
بعد مرور ٤٤ عاماً على الانتصار الأبرز فى تاريخ العسكرية المصرية، أعتقد أن من حق كل مواطن أن يقف على الحقيقة كاملة، لا يجوز بأى حال تدريس الضربة الجوية التى مهدت للانتصار فى كل المدارس والكليات العسكرية بالعالم على أنها كانت مفتاح النصر، ثم تأتى الذكرى المحلية بعد ذلك متجاهلة ذلك الحدث العظيم، على اعتبار أنه يُنسب إلى الرئيس الأسبق حسنى مبارك، الذى كان قائداً للقوات الجوية حينذاك، فى محاولة أيضاً لإعادة صياغة الذاكرة المصرية بعد عشرات الأعوام من التلقين بطريقة مختلفة، كما لا يجوز أيضاً تجاهل كل الجهود التى أسفرت عن تحرير طابا للسبب نفسه، وهكذا دواليك فيما يتعلق بالشق المضىء فى التاريخ المصرى.
أتطلع إلى ذلك اليوم الذى نسمع فيه، ويسمع أحفادنا من بعدنا، كل ما يتعلق بالتاريخ المصرى الحديث دون افتئات أو حتى مبالغة، أتطلع إلى قراءته من وثائقه وليس من رؤية أصحاب المصالح، أتطلع إلى إنتاج ذلك الفيلم العالمى الضخم الذى يتناسب مع حجم الحدث، أتطلع إلى تجرد المؤرخين والمؤلفين لدينا من أيديولوجياتهم، كما الرسميين من ذاتهم، لحساب مصلحة مصر وشعب مصر أولاً وأخيراً، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال يوميات الحرب على المستوى الرسمى كما تم تدوينها دون زخرفة ودون مزايدة.
أعتقد أن الجدل الدائر خلال السنوات الأخيرة حول سيرة حرب أكتوبر، يجب أن يفتح ملفات تاريخ مصر الحديث من كل جوانبها، خاصة ما يتعلق بالسنوات الست التى أعقبت ٢٥ يناير ٢٠١١، ذلك أنها كما حرب أكتوبر تماماً، أصبحت بمثابة مأساة، ترويها كل مجموعة من المؤرخين بما يناسب أهواءهم الشخصية، وفى النهاية كان الطفل المصرى هو الضحية، كما الكتاب المدرسى أيضاً، كما العقل المصرى عموماً، الذى أصبح خاضعاً فى الوقت نفسه لأهواء وسائل الإعلام على مختلف توجهاتها.
ربما كان أبلغ دليل على ذلك القصور المعرفى والمعلوماتى، هو الجدل الحاصل الآن بوسائل التواصل الاجتماعى، والسوشيال ميديا عموماً، حول الروايات الإسرائيلية الغزيرة المتعلقة بأسرار أكتوبر، ذلك أنها أصبحت المصدر الرئيسى للمواطن رغم ما تحمله من تشويش وتشويه، وهو ما يجب التوقف أمامه على الفور، وذلك بالإفصاح والمكاشفة من جهة، والرد على كل ما يثار من جهة أخرى، على اعتبار أنهم كانوا ومازالوا العدو التاريخى، مهما كانت درجة الدفء فى العلاقات كما يسميها البعض.