المصرى اليوم
عبد الناصر سلامة
من أرشيف حماس
فى عام ١٩٩٥، شهدت القاهرة مفاوضات ماراثونية بين حركتى فتح وحماس، تمهيداً للانتخابات التشريعية والرئاسية التى شهدتها الأراضى الفلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة فى العشرين من يناير ١٩٩٦، والتى كانت الأولى من نوعها فى تاريخ فلسطين فيما بعد قيام الدولة الإسرائيلية.. كانت مفاوضات القاهرة التى جاءت فى أعقاب اتفاقية أوسلو، أو غزة- أريحا أولاً، تهدف إلى تحقيق هدفين أو مطلبين على قدر كبير من الأهمية.

المطلب الأول هو مشاركة حماس فى الانتخابات، وهى التى كانت قد أعلنت المقاطعة، ترشيحا وترشحاً، بمعنى عدم ترشيح شخصيات تنتمى إلى حماس، وأيضاً عدم المشاركة بالتصويت، أما المطلب الثانى فكان يتمثل فى موافقة حماس على إلقاء السلاح، بمعنى وقف المقاومة المسلحة للاحتلال، على اعتبار أن مفاوضات السلطة الفلسطينية الجديدة مع إسرائيل سوف تسفر عن تحرير الأرض سلمياً، بما لا يجعل هناك حاجة إلى حمل السلاح، وهما المطلبان اللذان كانت ترفضهما حماس بشدة، ومن أجل ذلك تم اختيار القاهرة لمحادثات الطرفين، حتى يمكن الضغط على الحركة التى لم تكن سيطرت على قطاع غزة حتى اللحظة.

المهم، جاء وفد حماس برئاسة خالد مشعل، الذى كان يترأس المكتب التنفيذى للحركة نيابةً عن موسى أبومرزوق المعتقل فى الولايات المتحدة الأمريكية حينذاك، وذلك بصحبة وفد ضم محمد نزال وآخرين من بينهم أعضاء بحركة الجهاد الإسلامى برئاسة رمضان عبدالله شلَّح، وجاء وفد حركة فتح أو السلطة الفلسطينية، والذى كان يضم قيادات على قدر كبير من الأهمية، من بينهم الطيب عبدالرحيم أمين عام الرئاسة، ومحمد دحلان، الفتى المدلل للرئيس ياسر عرفات حينذاك قبل اتهامه شعبياً فى وفاته، ومحمد عصفور القيادى بالحركة، وجرت المفاوضات بفندق «شبرد» التاريخى، لما له من أفضلية فلسطينية.

قبل بدء المفاوضات بيوم واحد، وبمجرد وصول الوفدين فى المساء، جلستُ مع وفد حماس، وتحديداً مع خالد مشعل وآخرين، حيث كنتُ مكلفاً من «الأهرام» بتغطية هذه المفاوضات فى الصباح، وكان السؤال الطبيعى عن موقفهم خلال المفاوضات التى سوف تبدأ بعد ساعات، وهل سيوافقون فى نهاية الأمر على الترشح والترشيح، أم على الترشيح فقط، وهل سيوافقون على إلقاء السلاح، وما الضمانات أو الشروط التى يمكن أن يضعوها على مائدة المفاوضات للقبول بهذه أو تلك؟ وكانت الإجابة صادمة وجماعية، وهى أنهم سوف يرفضون هذه وتلك، وأن قبولهم التفاوض مجرد تحصيل حاصل!!، وبالطبع طلبوا عدم النشر.

الغريب أن هذا الموقف كان متفقاً عليه منذ قبل مجيئهم إلى القاهرة، على الرغم من أن الوفد فى مجمله ليس قادماً من الأراضى الفلسطينية، ذلك أن نصفهم على الأقل من فلسطينيى الشتات، كخالد مشعل على سبيل المثال، والذى كان يعيش فى الأردن قبل ترحيله فيما بعد إلى قطر برفقة محمد نزال، وموسى أبومرزوق بعد الإفراج عنه فى الولايات المتحدة، ولهذا قصة أخرى.

المهم أنه طوال أيام المفاوضات يعقد الجانبان مؤتمراً صحفياً مشتركاً، يؤكدان فيه التقدم الذى شهدته المفاوضات، دون ذكر تفاصيل توضح ذلك، وكيف أنهم على وشك إبرام اتفاق، وكنت فى نهاية كل مؤتمر أتوجه إلى أحد قيادات الحركة بسؤال هامشى بعيداً عن الجموع، عما إذا كان ما ذُكر فى المؤتمر الصحفى حقيقة، وأنه تم تحقيق تقدم من أى نوع، وكان الرد بصفة يومية أيضاً، هو أننا على موقفنا ولم يتغير شىء، ولن نشارك فى الانتخابات ولن نلقى السلاح!!

على الجانب الآخر، كنت دائم السؤال لأعضاء وفد حركة فتح أو السلطة الفلسطينية: ماذا لو لم يحدث تقدم فى المفاوضات، لقد تعهدتم لإسرائيل بأن تُلقى جميع الفصائل الفلسطينية السلاح، فى الوقت نفسه إذا لم تشارك حماس فى الانتخابات تصبح الشرعية منقوصة؟ كانت إجابات السلطة لا تحمل أبداً أى قدر من الدبلوماسية، ذلك أنها كانت تتسم طوال الوقت بالسطحية والعجرفة: نحن نستطيع اعتقالهم جميعاً بمجرد عودتهم إلى الأراضى الفلسطينية، نحن نستطيع محوهم من الوجود، نحن ونحن ونحن، إلى أن كان ما كان من ضياع القضية وتفرّق دمها بين الحركات والتنظيمات.

كانت كل وكالات الأنباء حينذاك، وكل الصحف تنشر يومياً عن ذلك التقدم المعلن، باستثناء «الأهرام» الذى يتحدث يومياً عن إخفاق مستمر، وأن الوضع محلك سر، حتى بدا الأمر وكأن هناك موقفا من الأهرام، أو من محرر الأهرام، لأن الفجوة كانت كبيرة جداً بين ما يُنشر هنا وهناك، إلى أن كان اليوم الأخير من المفاوضات الذى كان لابد فيه من إعلان الحقيقة، ولأنها كانت صادمة، فقد اتفقوا على أن يكون الكلام الرسمى للصحفيين هو أننا سوف نستكمل المفاوضات فى الأراضى الفلسطينية، وذلك ذراً للرماد فى العيون، إلا أن الأمر كان واضحاً، ذلك أن معظم أعضاء وفد حماس غادروا القاهرة إلى عواصم مختلفة كما عدد غير قليل أيضاً من أعضاء حركة فتح!!

مضى على هذه المفاوضات نحو ٢٢ عاماً، إلا أننى كنت أتذكرها دائماً، كلما تفاوضت الولايات المتحدة الأمريكية مع إيران حول المفاعلات النووية وصناعة الصواريخ الباليستية والحصار والمقاطعة، وغير ذلك من قضايا، كانت إيران خلالها لا تتزحزح عن موقفها قيد أنملة، ورغم ذلك استمرت بالمفاوضات عدة سنوات إلى أن حققت ما تريد، ذلك أن حماس أيضاً وفيما يشير إلى أنها قد استفادت من إيران وإسرائيل فى آن واحد، استطاعت فى نهاية الأمر تشكيل الحكومة الفلسطينية من خلال انتخابات تشريعية سيطرت فيها على مقاليد الحكم هناك، إلى أن كان ما كان من صراعات استقلت فيها بقطاع غزة حتى اليوم، وها قد جاء اليوم الذى تعيد القاهرة فيه استضافتهم من جديد، وتفتح لهم مكتباً، وتتوسط لتشكيل حكومة وفاق، وأنظار الرأى العام تتجه إلى الأحداث الجديدة، فى محاولةٍ لفهم ما يجرى فى غياب خطوط عريضة معلنة.. كل ما أخشاه أن يعيد التاريخ نفسه.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف