الجمهورية
على هاشم
في ذكري النصر .. صاحبة الجلالة في حاجة لعبور جديد
في الذكري الرابعة والأربعين لنصر أكتوبر المجيد لا يسعنا إلا التأكيد علي الدروس والعبر المستفادة . والتي انسحبت من حياتنا شيئًا فشيئًا .. وبمقارنة بسيطة مثلاً بين حال إعلامنا وصحافتنا اليوم وحالهما في أيام أكتوبر 1973ندرك كم تراجعنا وفقدنا أهم مقومات النصر العظيم وهو روح أكتوبر.
لم يقتصر دور إعلامنا وصحافتنا علي تسجيل مشاهد الحرب وتفاصيل المعارك فحسب بل لعب دورًا استباقيًا بالتمويه والخداع الاستراتيجي الذي رسمته القيادة السياسية وقتها لتضليل العدو المتغطرس» فخاطب الجبهة الداخلية بطريقة . والعالم الخارجي والعدو بطريقة مغايرة تمامًا . وهو ما خلق جوًا من التكتم والتعتيم انطلي وقتها علي أعتي أجهزة المخابرات العالمية وأوحي لإسرائيل بأن مصر لن تحارب أبدًا الأمر الذي مهد الطريق لقواتنا الباسلة لكتابة ملحمة عسكرية ومعجزة حربية توقف أمامها خبراء الحرب بكثير من الإعجاب والدرس واستخلاص العبر لقد كان نصر أكتوبر ولا يزال مضرب الأمثال في الشجاعة شجاعة القرار وشجاعة القتال والاشتباك والبسالة والفداء وعبقرية التخطيط والتنفيذ بروح قتالية لا مثيل لها في الكفاءة والقوة والإخلاص وحب الأوطان.
كان إعلامنا مهنيًا علي درجة عالية من الكفاءة والاستنارة والوطنية فنال احترام الجمهور . وحفر مصداقيته بأحرف من نور في الذاكرة الجمعية .. وهو ما يجعلنا نتساءل: هل استفاد إعلامنا وصحافتنا شيئًا من روح أكتوبر.. هل حافظ علي تلك الروح المتقدة بالحماس والحيوية وحب الوطن .. هل حافظ علي احترام الجمهور له وعلي مصداقيته التي كانت من أهم أسباب تحقيق المجد العظيم .. لماذا انتكس من بعد هذا الصعود الكبير ..؟
حال إعلامنا وصحافتنا اليوم لا يسر أحدًا. ولو أنه أبقي علي روح أكتوبر لوجدنا له دورًا مماثلاً اليوم في حرب الدولة ضد الإرهاب الذي هو أصلاً فكرة مغلوطة متطرفة اعتنقها شباب مُضَلَّل في لحظة ضعف أو انعدام وزن .. ولعلنا اليوم وبعد 44 سنة من تحقيق أعظم انتصاراتنا العسكرية نعيش ظروفاً مشابهة لما قبل العبور العظيم . فثمة أحوال اقتصادية مؤلمة . وثمة إرهاب غادر يتخفي في سيناء محاولاً تقويض دعائم استقرار الدولة. وثمة عدو خارجي وعدو من داخلنا. من بني جلدتنا وهذا هو المتغير الأخطر في معادلة الصراع المفروض علي مصر .. وهي معركة أخطر مما واجهناه عند نكسة 67 . معركة أساسها الفكر والوعي . ورأس الحربة فيها الإعلام والرأي العام وتوجيه العقول . فإذا أضفنا إلي ذلك ما تشهده ساحة الصحافة المطبوعة من منافسة شرسة غير متكافئة من جانب الفضائيات والمواقع الإلكترونية والسوشيال ميديا والأوضاع المهنية والاقتصادية الصعبة التي خلفتها سنوات ما بعد يناير 2011 لأدركنا عمق المأساة . وفداحة الوضع الذي تحياه صحافتنا كلها ـ قومية وخاصة ـ هذه الأيام . وربما يفسر لنا ذلك سر الفشل الذريع الذي مُني به إعلامنا عامة وصحافتنا علي وجه الخصوص في تعامله مع الأوضاع الاقتصادية المعقدة محليًا ودوليًا في هذه المرحلة الصعبة من تاريخنا . فلا هو واكب ما يجري في الخارج علي المسرح الدولي من ترتيبات وصراعات ما بعد الربيع العربي . وكيف صارت الدول العربية نهبًا وأرضًا لصراع القوي من الغرب والشرق .. كيف يجري تهيئة المجال لتقسيم دولنا وتفتيت وحدة شعوبنا لحساب أطراف بعينها . ورغم ذلك كله عجز إعلامنا عن مواكبة نبض الشارع وقضاياه وهمومه وحياته اليومية . ولم ينجح في رسم صورة واقعية للمستقبل وسيناريوهاته واحتمالاته ليأخذ بأيدي الناس إلي الطريق الصحيح . ولا هو ناصر الدولة وشدًّ من أزرها في معركة الإرهاب . بل تخلي عن موضوعيته والتزامه بقضايا وطنه وأمته . وسقط فريسة سهلة في أيدي أصحاب الأموال والنفوذ .ففقد الصدق والحياد في تناول وتغطية الأحداث والقضايا العامة. وللأسف تلون بعض صحفيينا وإعلاميينا . وانقلبوا من النقيض للنقيض من مدح نظام مبارك وتأييده إلي الهجوم عليه وممالأة الإخوان ومغازلة الثورة ونفاق الثوار .. وهكذا تبدلت مواقف البعض ممن يتخذون الإعلام والصحافة مطية لأغراض سياسية ومصالح خاصة . والأدهي أن بعض هؤلاء الآكلين علي كل الموائد تقمصوا شخصية " الثائر " فهاجموا كل رمز . وتطاولوا علي كل قيمة . ونهشوا الأعراض وشوهوا السمعة واغتالوا البراءة . وأمام هذه التحولات البهلوانية فقد جمهور الإعلام والصحافة ثقته فيهما . فخسرا رصيدهما. وباتا في خطر كبير .
الصحافة في كل الدنيا تعبر عن أحوال الناس بكل أطيافهم . ترصد آمالهم وآلامهم تواجه الفساد . تفجر القضايا . تنقل الأخبار المحلية والدولية. وتحلل وتستنبط دلالاتها ومؤشراتها لتضعها بين يدي القارئ. وصانع القرار أيضًا عليه أن يتابع ما ينشر بدقة وتتولي أجهزة الحكومة الرد والتعقيب . ما يعني أن الصحافة هي لسان حال المجتمع والمعبر عن مصالحه وهمومه واتجاهاته فهل تضطلع صحافتنا بهذا الدور .. أم أنها تخلت عن رسالتها . فأغرقت في المحلية وأغفلت القضايا الكبري والأحداث والتحولات الدولية . وتجاوز بعضها حدود النقد البناء إلي السفاهة والجدل وافتعال معارك وهمية أقرب إلي السفسطة والإثارة والدجل منها إلي المصالح العليا للوطن .. فالصحافة القومية متهمة دائمًا ـ في نظر البعض ـ بالانحياز المطلق للحكومة والدفاع عنها بالحق والباطل . أما الصحافة الحزبية والخاصة فهي متهمة بالتحامل علي الحكومة وتهويل أخطائها وإنكار إنجازاتها دون أن تتعب نفسها بتقديم حلول أو بدائل واقعية لما تراه عيوبًا أو قصورًا في أداء الحكومة . الأمر الذي يصيب قارئها بالإحباط والسوداوية وفقدان الثقة.. وبين الفريقين يقف المتلقي حائرًا بين طرفي نقيض . فانصرف عنهما في أحياني كثيرة وتراجع الدور الطليعي التنويري للصحافة كلها» فلا هي نجحت في كسب جمهور جديد من فئة الشباب الذين انصرفوا إلي العالم الافتراضي. ولا هي أفلحت في الحفاظ علي جمهورها الأصلي . ناهيك عن متغيرات جديدة ضربت صناعة الصحافة العريقة في مقتل . أهمها ـ في رأيي ـ الغلاء الفاحش في مستلزمات الطباعة والتشغيل بعد أحداث 25 يناير. ثم تضاعفت بعد تعويم الجنيه . وتراجع أرقام التوزيع لجميع الصحف بلا استثناء بدرجات متفاوتة . بعد تهافت المحتوي وخلوه من عوامل التشويه والجاذبية . وهيمنة الولاءات علي توجهات الصحف وقناعاتها الفكرية والسياسية. وتدني دخول الصحفيين الذين اضطروا تحت وطأة الحاجة والفقر إلي العمل بأكثر من مكان بحثًا عن لقمة العيش دون الحصول علي قدر مناسب من التدريب والتأهل أو تداول الخبرات بين الأجيال» مما جعل المهنية الصحفية والحرفية تتراجع وتتدني. فضلاً علي اكتساح الفضائيات والإنترنت لسوق الإعلام وسحبها البساط من تحت أقدام الصحف المطبوعة واستحواذها علي سوق الإعلانات . وتراجع نسب المقروئية وأعداد القراء بصورة ملحوظة . بعد غلبة أشكال جديدة للترفيه والتثقيف والتسلية وارتفاع تكاليف المعيشة بصورة أثرت سلبًا علي موارد الصحف بصورة كارثية .
ولم تحاول صحافتنا للأسف استيعاب مثل هذه المتغيرات . ولا سعت لمواكبة روح العصر فتجاوزها الزمن. واستحوذ البث الفضائي والإلكتروني علي أغلب جمهور الصحف نظرًا لسهولة التواصل والقدرة علي التعايش مع آلام الناس وطموحاتهم صوتًا وصورة بأقصي سرعة» الأمر الذي يطرح سؤلاً مصيريًا : هل هناك إمكانية لعبور الصحافة المطبوعة هذه المحنة قبل أن تنقرض وتصبح شيئًا من ذكريات الماضي الجميل .. هل يمكن استعادة قدرتها علي التواصل والتأثير والمصداقية .. هل تمد الحكومة يد العون للصحافة القومية رمانة الميزان للرأي العام ـ ليس بالتكفل بمصاريف ونفقات الأجور والتشغيل فحسب بل بتوفير فرص حقيقية للتدريب وتنمية البشر. واستثمار الأصول بصورة أفضل وإسقاط الديون حتي تنتقل من مربع تلقي الدعم إلي الاعتماد علي نفسها بقدراتها الذاتية .. هل تمنحها الحكومة الاستقلالية المطلوبة حتي تستعيد ثقة جمهورها وتستعيد الحكومة معها أيضًا مصداقيتها المفقودة من جديد بإتاحة مزيد من حرية النقد للحكومة ذاتها متي تطلب الأمر ذلك .
أدرك أن المجلس الأعلي للإعلام برئاسة الزميل مكرم محمد أحمد والهيئة الوطنية للصحافة بقيادة الزميل كرم جبر ونقابة الصحفيين ونقيبها الزميل عبد المحسن سلامة يبذلون جهودًا مضنية لتحسين أحوال الصحفيين والنهوض بالمؤسسات الصحفية القومية لتمكينها من استعادة مكانتها المستحقة.. لكن الجماعة الصحفية كلها مطالبة اليوم بجهد أكبر للوصول للقارئ واستمالته نحوها من جديد. وعلي الحكومة ألا تغضب من الصحافة إذا مارست دورها الصحيح في إبراز السلبيات دون تهويل وتسليط الضوء علي الإيجابيات دون إفراط في المديح . فالصحافة القوية تخلق حكومة قوية في ظل ضعف المعارضة السياسية وغياب أي دور فعال للأحزاب وتخلق بالدرجة ذاتها مجتمعًا نشطًا ينبض بالحياة ويتسم بالقوة في ظل نظام سياسي يقوم علي التعددية وينادي بحرية الرأي والتعبير.
أما الصحافة الخاصة فهي مطالبة بمزيد من الموضوعية والاعتدال في نقد أداء الحكومة وكما تنشر سلبياتها فلابد أن تعترف بإيجابياتها متي أجادت وأحسنت انحيازًا للحقيقة ولمصالح الدولة وحدها والتحرر من الأغراض والأجندات الخاصة بمموليها .
صحافتنا كلها ـ قومية وخاصة ـ مطالبة بالانفتاح علي العالم واستلهام تجاربه الناجحة المؤثرة . ومد أواصر التعاون مع مراكز الدراسات ومنظمات المجتمع المدني .. حان الوقت لاستلهام روح أكتوبر في كل مؤسساتنا. وفي القلب منها الصحف والإعلام . مطلوب عبور جديد قبل أن تموت الصحف واقفة في مكانها . ومتي أحس القارئ أنها تعمل لصالحه وتتبني قضاياه بصدق وموضوعية فسوف يعود إليها. وعلي الحكومة أن تهيئ المجال لذلك بسرعة إصدار قانون حرية تداول المعلومات لتسهل محاسبة المخطئين المتجاوزين وتوفير مناخ من الشفافية والموضوعية . وعلي المؤسسات المسئولة عن الإعلام والصحافة أن تبادر طواعية لتنقية المجال من الشوائب والتجاوزات والأخذ علي أيدي المتجاوزين من أبناء المهنة لتفويت الفرصة علي أعداء الحرية والصحافة المتربصين بها .. وحسنًا ما فعله المجلس الأعلي للإعلام بمنع ظهور المثليين والشواذ علي الشاشات أو صفحات الصحف .. وننتظر المضي قدمًا في تحسين أحوال المهنة وأبنائها من جميع الجوانب المادية والمهنية حتي تسترد صاحبة الجلالة عافيتها ومصداقيتها . وحتي يتوقف نزيف الخسائر الذي يهدد أسر آلاف العاملين في الصحافة.. فهل نحن قادرون علي صنع عبور جديد بإعلامنا وصحافتنا علي غرار العبور العظيم في أكتوبر 1973؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف