* لا يعرف قيمة أكتوبر 73 إلا من عاش يونيو ..67 والسنوات الست التي تلتها.. مههما تخيلت أو قرأت.. فلن تشعر بإحساس الفخر والعزة والكرامة الذي ذاق طعمه كل من كان يجلس أمام الراديو أو التليفزيون الساعة الثانية ظهراً واستمع للبيان العسكري الذي بشر المصريين بالعبور.
امتزج الإحساس بشك خوفاً من تكرار مرارة الهزيمة.. ولم يصدق الناس البيانات المتتالية إلا عندما صاحبتها صور رفع العلم علي الجانب الآخر من قناة السويس.. ومعها لقطات لاقتحام خط بارليف وتحطيم الجنود لنقاطه الحصينة وذوبان الساتر الترابي وتهاويه كقطع البسكويت بفعل خراطيم المياه.. وتأكد النصر عندما عرض الفيلم الذي يظهر تدمير عشرات الدبابات الإسرائيلية واستسلام عساف ياجوري وجنوده واستكمال رءوس الكباري وزحف العربات المدرعة لتعبر القناة.
لم تشهد الأجيال الجديدة فرحة النصر الحقيقية سوي من خلال الفوز في مباريات الكرة.. ولكن قهر الأعداء وعبور المستحيل بعد سنوات من الهزيمة شيء آخر.. وفرحة لا توصف وإنما تُعاش.. وقد كان جيلنا محظوظاً وهو يشارك في تلك اللحظات التي تلاحم فيها الجميع.. كان الشعب هو الجيش.. الكل يريد الثأر.. لذلك امتزجت دماء المصريين بكل طوائفهم وفئاتهم وأطيافهم علي أرض سيناء.
كنا في بدايات الشباب.. بالكاد حصلنا علي الثانوية العامة ونستعد لدخول الجامعة.. قامت الحرب.. تطوع الجميع في المقاومة الشعبية والدفاع المدني.. وذهبت الفتيات إلي الهلال الأحمر وتوزعن علي المستشفيات.
كان كل بيت به مقاتل أو أكثر.. فهذا شقيقه عبر القناة مع الأفواج الأولي.. والثاني يتفاخر بأن قريبه استشهد في معركة الدبابات.. والثالث يتباهي بأن عمه في مركز القيادة الذي لا نعلم أين هو.. وإنما سمع من والده إنه في مكان ما تحت الأرض مع الرئيس السادات والقادة أحمد اسماعيل والشاذلي والجمسي.. ومن هناك تدار المعركة.
سمعنا من أحد الزملاء عن أن قريبه محاصر في منطقة تسمي "الدفرسوار" وأن هناك "ثغرة" لم نكن ندرك ماذا تعني.. ولكننا حرصنا علي التفاني في التدريبات لإنهائها والذهاب إلي الجبهة كما وعدونا.. وبالفعل أتممنا التدريب علي استخدام البنادق في معسكر.. وزفوا لنا البشري "ستذهبون إلي السويس بعد غد" ذهبت أعد نفسي وأحلم بالمشاركة في المعارك.. فنحن لسنا أقل ممن عبروا.. وبات كل شاب يفكر كيف سينقل الخبر إلي أهله بأنه ذاهب إلي الجبهة.. فجأة في مساء اليوم التالي.. ألقي الرئيس السادات خطاباً ذكر فيه إنه قَبِل وقف إطلاق النار.. بكينا جميعاً عندما قالوا لنا في الصباح: لا داعي لذهابكم.. فقد انتهت الحرب.
** تزامن أكتوبر مع رمضان لأول مرة في حياتي عام ..1973 ومنذ طفولتي وأكتوبر أحب الشهور إلي قلبي لأن فيه مولدي وكانت تأتيني فيه الهدايا من الأسرة وهي تحتفل بيوم مولدي.. كما كان رمضان هو المفضل من الشهور العربية لأنهم يشجعون الأطفال علي الصيام ويشترون لهم الفوانيس الملونة وننزل إلي الشارع نغني "وحوي يا وحوي".. والأهم أنه في هذا الزمن لم تكن البيوت تعرف الكنافة والقطايف سوي في هذا الشهر.. وبصراحة أنا أعشق هذه الحلوي.
زاد انتصار 6 أكتوبر/العاشر من رمضان من حبي للشهرين.
مر 44 أكتوبر.. ومازال الكثير من أسرار الحرب لم يُعلن.. والأهم أننا لم نعرف سوي القليل عن الأبطال الذين حققوا النصر.. ولا بطولات الذين استشهدوا.. ولا حكايات من عبروا.. ولا تضحيات أهلهم وأسرهم.. ولا عن المدنيين الذين شاركوا مع القوات المسلحة.. كما لم نستطع حتي اليوم إنتاج أعمال درامية علي مستوي الحدث الكبير.. رغم وجود قصص وروايات.. وبالتأكيد لدي إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة العديد منها والذي يصلح لأفلام وتمثيليات وقصص تليق بنصر أكتوبر وبما أنجزه المصريون من معجزة في العبور.. ومن ملحمة في تكاتف الشعب.. ليتنا نستعيدها هذه الأيام.
الصحفيون غلابة.. في نظر "العزبي"!!
** جزاك الله يا أستاذ.. فقد دخلت إلي مكتبي في "الجمهورية" أول أمس لأكتب مقالي الأسبوعي.. وكان في رأسي عدة موضوعات.. ولكنني وجدت كتابك الجديد وعليه الإهداء الرقيق.. فأمسكت به بعد صلاة الظهر.. وإذا بي أغرق معك أتنقل بين الكلمات.. وأفسر ما بين السطور وأضحك مرة.. وأبكي مرات.. ولم أشعر بالوقت إلا عندما انتهيت.. فنظرت إلي الساعة فإذا بها تقترب من العاشرة مساء ولم أكتب شيئاً بعد.. تري هل كان عندي نظر؟!
ما إن تبدأ في قراءة أي كتاب للأستاذ محمد العزبي أتحداك إذا استطعت أن تتركه من يدك أو أن تفعل شيئاً آخر إلا بعد أن تصل للصفحة الأخيرة.. فهو يستحوذ علي عقلك وفكرك.. يأخذك إلي عالمه السحري.. ينقلك ما بين الماضي إلي الحاضر في لحظة.. يسرد قصة عن أشخاص عاشوا بيننا وأثروا فينا.. أحببنا بعضهم واختلفنا مع أغلبهم.. يكشف أسراراً ويؤرخ لوقائع.. ويجعلك تستنتج انطباعات وتكون آراء عن رؤساء ووزراء وكبار الكتاب والصحفيين وصغارهم.. فهذه المرة اختار لكتابه عنوان "صحفيون غلابة" ويدعي انه يكتب بنظر 6/60. وهي حجة أصبحت لا تنطلي علي أحد.. فبالتأكيد هذا كلام واحد عنده نظر زرقاء اليمامة!!
تقرأ في كتاب "العزبي" الجديد حكايات عن الملك فاروق وما قيل عن وفاته.. ويتحدث عن الرؤساء بعد ثورة يوليو إلي يومنا هذا.. من محمد نجيب إلي السيسي.. وتتعرف أكثر علي عبدالناصر وأيامه.. والسادات وأحلامه.. ومبارك الذي أسدل عليه الستار حياً وميتاً.. ومرسي الذي يتساءل: هل يكون أول رئيس لمصر ينفذ فيه حكم الإعدام؟!
يتناول تحت عنوان "مطلوب حياً أو ميتاً" قضية تكفير الآدباء والمؤلفين والمطربين واتهامهم بخدش الحياء والمطالبة بمنع ومصادرة أعمالهم الفنية.. وكان أديب نوبل "نجيب محفوظ" له حظ وافر من ذلك.. وينتقل في أبوابه من "قطار الأمل" و"فريد شوقي محرر طابا" و"الموت في السماء" لتقرأ حكايات ومغامرات من القاهرة إلي سيناء.. ومن واشنطن إلي بورسعيد المدينة الباسلة.. وكيف نجا من الموت مرات وتجده يحشر في حواديته مدينته التي تطل علي بحيرة المنزلة.. ويروي قصة إسلام ليلي مراد.. وكيف جاءت فكرة فيلم "غزل البنات" مع نجيب الريحاني الذي أنتجه زوجها أنور وجدي.
يأخذك معه إلي أيامه في عنبر "2" بسجن مزرعة طرة واللقاء مع جمال الغيطاني وجلال السيد وعبدالرحمن الأبنودي والشاعر سيد حجاب الذي يؤكد أن مثله لا يموت ولكنه ينتقل من بيته في المعادي إلي مدفنه في الوفاء والأمل بمدينة نصر.. وتتخيل الدموع تنساب من عينيه عندما يتكلم عن تعذيب شقيقه أحمد العزبي "الذي عرفته أنا خلال سنوات عملي معه في أبوظبي وكان نعم الصديق المعين في الغربة.. رحمه الله".
تغرق معه في التفاصيل وهو يكتب عن "صناع البهجة" من الكتاب والفنانين ومنهم صلاح جاهين وسيد مكاوي واسماعيل ياسين ومحمود السعدني وجلال عامر وأحمد رجب ومحمد عفيفي وسعيد صالح وعلاء ولي الدين وبيومي فؤاد.. لكنه يجزم بأن الزعيم عادل إمام هو الأذكي علي الإطلاق.
لا ينسي أن يداعبك.. ويتمني لو نسي الدنيا وما فيها مثل عمر الشريف الذي أصيب بـ "الزهايمر" الذي نتمني من الله أن يبعده عن "العزبي" لتظل ذاكرته حاضرة تمد المكتبة العربية بكلماته التي نتعلم منها.
"صحفيون غلابة.. والكتابة بقلم 6/60".. ملئ بالحكاوي والذكريات المغموسة بالفلسفة والسياسة.. مكتوبة بمشرط جراح ماهر.. يعرف خبايا المطبخ الصحفي.. وأوجاع الوطن.. وهموم الشعوب العربية من المحيط إلي الخليج.. لذلك كلماته مثل العملية الجراحية التي تتناول بعدها جرعات من الدواء.. والغريب أنك تستمتع وأنت تتجرعه مع أنه شديد المرارة.. لكن فيه الشفاء.. فأنت تعيش الماضي والحاضر.. تأخذ العبر دون أن يفرضها عليك.. تستنتج الحلول لمشاكل الواقع الذي نحياه دون أن يجبرك علي الأخذ بها.. تضحك وتبكي.. ولكنك لا تملك إلا أن تعشق هذا البلد الذي يذوب فيه عشقاً ويدعوك لتعيش حلوه ومره.
.. ولأنه مهموم بمهنته ويشغله مستقبلها.. فلابد أن تجد صفحات عن "صحافة بكرة" يرحب فيها بالدم الجديد الذي سيضخ في العروق من خريجي كليات الإعلام "لعل وعسي" يساهمون في عملية إنقاذ الصحافة.
تحدث الكتاب عن عشرات من الاسماء والنجوم اللامعة عبر أكثر من نصف القرن.. من المصريين والعرب والأجانب.. وكان أغلبهم ممن ينتمون لمهنة البحث عن المتاعب..لذلك فمن لم يكتب عنه "العزبي" مدحاً أو انتقاداً فإنه ليس صحفياً.. ولم يعمل يوماً في مسح بلاط صاحبة الجلالة!!
يتحجج الكاتب بتقدم العمر وضعف البصر.. ومن يقرأ الكتاب يعرف أن كثيراً من الناس أعمي البصيرة.. ولكن الأستاذ محمد العزبي كان ومازال عنده نظر.