محمد ابو الفضل
نمـر فلسطين أم نمـور إسرائيل؟
المراقب للمشهد العام للصراع العربي الإسرائيلي يتأكد أن هناك تحولات كبيرة طرأت عليه في السنوات الماضية، بدءا من تراجع موقع القضية الفلسطينية في الوجدان العربي، وحتي أدبيات ومفردات الصراع الشائعة التي لعبت فيها التطورات الإقليمية دورا مهما في تحريكها بعيدا عن مسارها التقليدي.
كما أسهمت الانتهاكات والممارسات الإسرائيلية المتواصلة بدور معتبر في ترسيخ أمر واقع قد يصعب تغييره لاحقا، وأدي الانقسام الفلسطيني إلي هز عدد من الثوابت التاريخية وضاعف من المتاهة السياسية والأمنية.
المصالحة الفلسطينية التي ترعاها مصر واحدة من المداخل الرئيسية لتصويب بعض المسارات الخاطئة، فالحوار والتفاهم والتوافق بين القوي الوطنية نقلة نوعية باتجاه توحيد الصوت والبوصلة والقرار الفلسطيني، وإعادة الاعتبار للطريق الشرعي الذي تأثر كثيرا بالتجاذبات والمكايدات والخلافات التي سادت الفترة الماضية، ودحض الذرائع التي درجت علي تسويقها تل أبيب للتنصل من عملية التسوية وتجميدها سنوات، وهو ما منح إسرائيل فرصة استمرار تجريف الأرض والحجر والبشر وكل المقومات الفلسطينية الحية.
الاستدارة الإيجابية التي تحدث الآن بين الحركات الفلسطينية، واحدة من الأدوات التي تعيد الحياة للقضية الأم في المنطقة، وتشي بأن وضوح الرؤية والعزيمة والإخلاص محاور ضرورية لمواجهة التحديات، وتنزع أحد أهم الأسلحة التي يستند عليها رؤساء الحكومات المتعاقبة في تل أبيب.
وهي تكمن في الخلاف بين القوي الفلسطينية الذي منح إسرائيل فرصة للتنصل من غالبية الاستحقاقات التي تقرها الشرعية الدولية، ومحاولة تشويه الفلسطيني والتعامل معه علي أنه «مجرم وقاتل وإرهابي وخارج علي القانون»، في وقت تم فيه تجاهل المجرمين والقتلة والإرهابيين والخارجين علي القانون الحقيقيين داخل إسرائيل.
الأسبوع الماضي صكت وسائل الإعلام الإسرائيلية لفظا ربما يكون جديدا بالنسبة لكثيرين، وهو «القاتل المناوب» الذي وصف به المواطن نمر الجمل (37 عاما) الذي أطلق النار علي عدد من أفراد الشرطة الإسرائيلية فقتل ثلاثة وأصاب رابعا، بعدها انقلبت الدنيا في إسرائيل، لأن نمر الفلسطيني كان يعمل في إحدي المستوطنات ويخضع لفحص أمني دوري كل ستة أشهر وغير معروف أن له انتماءات سياسية معادية، لذلك كان مفاجأة لأجهزة الأمن.
أصداء الحادث خلفت تداعيات كثيرة في دوائر إسرائيلية متعددة، واستخدمه المتطرفون كدليل علي أن كل فلسطيني مشكوك في نياته وأنه «قاتل مناوب أو محتمل»، أملا في قذف الكرة بعيدا عن ملعب المستوطنين.
المواطن الفلسطيني نمر الجمل أطلق النار بعد أن فاض به الكيل، وكان يخضع يوميا لأنواع مختلفة من الفحص الأمني والإذلال والمضايقات، ذهابا وإيابا من قريته «بيت سوريك» في شمال غرب القدس المحتلة إلي مستوطنة «هار أدار» المجاورة، وأخفقت كل الحجج الإسرائيلية في حرف القضية عن مسارها، وجري تشويه الرجل الذي سقط شهيدا علي الفور بأيدي جنود الاحتلال، وتصويره علي أنه مريض نفسي وتعرض لضغوط عائلية، في محاولة لإخفاء الدوافع الحقيقية التي أدت إلي قيامه بالحادث، وتتعلق بالانتهاكات التي يتعرض لها يوميا الشعب الفلسطيني.
إذا كان نمر الفلسطيني قتل الجنود الإسرائيليين تحت وقع الظروف غير الإنسانية التي تعرض لها من جانب قوات الاحتلال، فما هي مبررات وتفسيرات الجرائم التي يرتكبها نمور إسرائيل من المستوطنين وغلاة المتطرفين وقطاع من المعتدلين وكلهم يتفاخرون بجرائمهم السياسية والأمنية بحق الفلسطينيين؟
هؤلاء يلقون التأييد والدعم الكبير من معظم القوي السياسية، وتسعي الحكومة دوما إلي استمالتهم من خلال غض الطرف عن تصرفاتهم وتجاهل الانتقادات والعقوبات الدولية التي تأتي من ورائهم، والتصميم علي تدليلهم، سياسيا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا.
التوازنات الفلسطينية المختلة في طريقها للتغير بمجرد وصول المصالحة إلي محطتها النهائية، بينما تظل المعادلة الإسرائيلية تحركها حسابات داخلية وأيديولوجية، وتضرب حكومتها عرض الحائط بكثير من المواقف الدولية، ما لم ينتبه العالم إلي أن هذا المنهج سوف يؤدي إلي مزيد من الخلل في المنطقة، لأن عدم ممارسة المجتمع الدولي ضغوطا كافية علي إسرائيل يمنحها الفرصة للاستمرار في غيّها ويرسخ قناعات عديدة حول عدم القدرة علي ردعها. المسرحية التي ألفتها وأخرجتها إسرائيل بشأن وضع بوابات إليكترونية عند مدخل المسجد الأقصي أخيرا، انتهت فصولها علي الفور عندما كانت هناك رغبة دولية للضغط عليها، وإرادة قوية لعدم تفجير الأوضاع الساكنة منذ فترة، وتحاشي المزيد من إحراج بعض القوي الكبري، بمعني أن ثمة أدوات سياسية يمكن استخدامها لوقف ما تقوم به قوات الاحتلال من إجراءات متدنية، لكن اللجوء إليها يتوقف علي مدي توافر الرغبة والإرادة معا.
الحال تكرر أيضا مع منظمة اليونسكو في مايو الماضي، واستنكرت جميع الإجراءات والأفعال القانونية والإدارية التي تتخذها إسرائيل وغيرت أو تسعي إلي تغيير طابع ووضع مدينة القدس، وتجاهلت المنظمة حملات التهديد والوعيد التي أطلقتها تل أبيب وبعض أصدقائها وحلفائها.
علاوة علي النصر الدبلوماسي الذي تحقق في 27 سبتمبر الماضي، عندما تم قبول فلسطين عضوا في منظمة الشرطة الدولية (انتربول)، وتجاهل مناورات إسرائيل للحيلولة دون قبولها، لأن العضوية تمنح السلطة الفلسطينية مكسبا معنويا وحقا ماديا في ملاحقة مجرمي الحرب في إسرائيل.
الواضح أن الفترة المقبلة تحتاج إلي قدر كبير من الخبرة والحكنة والمسئولية من قبل الحركات الفلسطينية، ومحاولة توظيف التغيرات باتجاه إسرائيل التي لم تعد تتلقي دعما تلقائيا من القوي الدولية، فهناك جهات كثيرة علي استعداد للتعامل بطريقة مختلفة عما ألفناه من محاباة ومساندة وتضليل خلال السنوات الماضية، شريطة أن يتوحد الفلسطينيون ويتقن قادتهم فن مخاطبة العالم بما يفهمه، والخروج من ربقة التقديرات الحركية التي كلفت القضية خسائر فادحة كادت تدخلها طي النسيان.
الفرصة مواتية حاليا لإعادة ترتيب الأوراق الداخلية، وإسرائيل التي كانت تحدد موعد إطلاق رصاصها وصواريخها وتحرك دباباتها في الاتجاه الذي تريده، ليست هي إسرائيل الآن الحذرة والتي تتريث كثيرا خوفا من التعرض لانتقادات دولية حاسمة، فقط مطلوب من القوي الفلسطينية الترفع عن الصغائر وإعادة اللحمة الوطنية، يومها سيدرك العالم أن نمر الجمل البسيط كان ضحية نمور إسرائيل المتوحشين.