وأنا أقرأ ديوان «واو عبد الستار سليم»، الصادر أخيرا عن دار الدار، أثارت فى ذهنى «مربعاته» قضية من أهم قضايا الإبداع الأدبى, والفنى عموماً، وهى قضية الأصالة والمعاصرة, أو التراث والتجديد.
ولكن قبل أن أشارك القارئ الأفكار التى راودتنى وأنا أقرأ الديوان, يحسُن أن نتأكد معاً من أننا نتشارك فى الفهم نفسه لمصطلح فن الواو والمربع الصعيدى.. المربع هو قصيدة أو مقطع من أربعة سطور, أى رباعية, ذات نمط خاص فى الوزن والقافية، يتميز به الشعر الشعبى الشفاهى فى صعيد مصر. أما الواو فهو اسم يطلق على أسلوب هذه الرباعيات أو المربعات من حيث الاعتماد على الجناس والتورية ولزوم ما لا يلزم فى القوافى. ويُنسب منشأ هذا الفن الشفاهى الفلكلورى إلى شخصية شبه أسطورية هى ابن عَروس الذى كان شاطراً وقاطع طريق فى العصر المملوكى، ثم تاب وصار فيلسوفاً شعبيا تتجلى حكمته فى مربعاته التى من أشهرها: ما حد خالى من الهم/ حتى قلوع المراكب/ ما تقولش للندل يا عم/ وإن كان على السرج راكب..
وإذا كان المربع وفن الواو كما أسلفنا شكلا تراثيا شفاهيا وفلكلوريا يتميز به جنوب مصر ويمتلكه ضمن مأثوراته الضاربة فى القدم, فإن بعض الشعراء المحدثين المنتمين للصعيد لجأوا إلى فن الواو وشكل المربع فى دواوينهم المكتوبة. ولعل أشهر وأشعر هؤلاء شاعرنا عبد الستار سليم, الذى له أكثر من عمل مكتوب ومنشور يلتزم فيه هذا الفن التراثى الشفاهى المنشأ, كان آخرها ديوانه «واو عبدالستار سليم» الذى بدأنا حديثنا هنا بذكره، وبذكر ما أثاره عندى من أفكار حول الأصالة والمعاصرة، أى حول مدى التمسك بالتراث ومدى الخروج عنه بالإضافة إليه وتجديده وتحديثه وعصرنته.
فى الديوان الذى نحن بصدده نماذج جميلة من ذلك الفن التراثى الأصيل, فن الواو, يلتزم فيها شاعرنا عبدالستار سليم تقاليد ذلك الفن, فيبدأ بالصلاة على النبى الكريم:
أول كلامى ح اصلى/ ع اللى الغزالة مشت له/ واحكى على اللى حصل لى/ وزرع همومى ف مشاتله. تأملوا معى قوافى هذا المربع حيث الجناس التام (ح اصلى حصل لى) و(مشت له مشاتله), وهو تطابق سمعى يعكس الأصول الشفاهية لفن الواو، أما الاختلاف فهو فى الكتابة لا النطق.
ثم لنتأمل معاً قوافى هذا المربع:
عينى رأت سرب غزلان/ فيهم غزالة شريدة
والقلب لما اتنغز.. لان/ شاور وقال لى شارى ده
هنا التطابق السمعى نفسه للقوافى- أو شبه التطابق فى قافية الشطرتين الأولى والثالثة- وما يولده لزوم ما لا يلزم من افتنان لم يكن ليأتى أو يخطر على بال الشاعر إلا بالتزامه الجناس (اتنَغَز.. لان). الحال نفسه ينطبق على قافية الشطرتين الأولى والثالثة فى المربع التالى:
يا وشوش فيها تجاعيد/ عدد البلا والبلاوى/ حزنانة لو حتى جا عيد/ والحبل ع الحبل لاوى..
لقد أنتج لنا التزام الجناس أو التطابق التام بين حروف قافية هاتين الشطرتين (تجاعيد/ لو حتى جا عيد) أنتج لنا السطر الثالث الشجىّ (حزنانة لو حتى جا عيد) الذى لم يكن ليأتى لولا الحرص على القافية بطريقة الواو.
هذه نماذج من إبداع عبد الستار سليم فى فن الواو, والديوان يحتشد به لمن أراد التزود. وكلها إنجازات فى مضمار الأصالة, تذكرنا بشوقى حين كان يستلهم المتبنى والتراث العربى الكلاسيكى فيأتى بلآلئ ذات طابع تراثى.
ونحن فى انتظار ديوان جديد لشاعرنا الكبير عبدالستار سليم, أو من يسير على دربه, تحدث فيه الخطوة الثانية لكى تكتمل المنفعة؛ فلا يكتفى الشاعر بالأصالة أو التزام التقاليد الفنية للشكل الذى يستلهمه، بل فى الوقت نفسه، يتمرد عليه، ويستخدمه ويسخره فى إبداع شكل جديد ذى ملامح تراثية وأخرى معاصرة. كالولد الذى يحب أباه ويحترمه لكنه لا يقدسه, ويضع التطوير فى مصاف الإعجاب بالأصل نفسه والحفاظ على ملامحه وقسماته الأصيلة. فى كلمتين، «واو عبدالستار سليم» عمل رائع شديد الأصالة, نرى أنه قد يفتح الباب لتأملات حول المعاصرة وإمكانات التحديث.