الأهرام
ياسر بهيج
جنة "القرصان" .. في الأوبرا!
إن أردت أن تعيش في دنيا أخرى غير الدنيا التي تعيشها ، أو قل جنة وليست دنيا كالتي نعيشها ، فعليك بزيارة دار الأوبرا .. كيان راقٍ جميل عريق عظيم .. به كل ماتتمناه.
ثلاثة مسارح رائعة ، تشاهد عيناك فيها كل جميل ، حدائق غنّاء فيها مايذهلك من الأشجار والنخيل النادرة الباسقة ، التي تضفي روعة على المكان ، وأرضيات نظيفة لامعة تبرق من اللمعان ، مصنوعة من الرخام الملون ، الذي يشعرك بالرفاهية والفخامة ، وعندما تدلف للداخل يستقبلك رجال الأمن في مظهر حضاري ، يشعرك بآدميتك ، ثم تجد في انتظارك استراحات واسعة منظمة ، تتخللها طرقات ، في شكل متناسق متناغم ، تتزين جدرانها بأبهى التابلوهات للفنانين المبدعين الكبار والشباب ، وديكورات مبهرة تجعل الزيارة متعة لا تنسى ، وبمجرد أن تتطأ قدماك أرض المسرح ، تستضيفك صالة مستديرة على شكل طبقات ، تعلوها ثرايا مذهلة ، تتراص بها مقاعد وثيرة تمنحك الراحة والسعادة ، وتساعدك على التواصل التام والاستغراق في روعة العروض ، وحتى الجمهور الحاضر ، يمتع بصرك بالرقي والجمال والفخامة في الملابس ، ويستثير أنفك بروائح العطور الساحرة ، فالكل آتٍ في أبهى حُلّة ، متأنقًا سعيدًا ، وعلى الوجوه ابتسامة ، وفِي داخل القلوب الشوق للإبداع .. باختصار أجواء لا يقدر القلم على وصفها بدقة ، من فرط روعتها وجاذبيتها ، وكأنك تشاهد لوحة مذهلة من الإبداع البشري .

في الأوبرا هذا المكان الحضاري ، وبالأخص المسرح الكبير ، وفي مثل تلك الأجواء ، لابد أن تنفصل تمامًا عن الواقع الأليم الذي نعيشه في الخارج ، من الضوضاء والفوضى والعشوائية وتشوه سلوكيات البشر في الحياة .. تشعر كأنك في جنة الله على أرضه بلا مبالغة ، بل ويزيد تلك اللوحة البديعة سحرًا وجمالًا ، النظام الصارم المفروض على كل الزائرين للحفاظ على هيبة المكان ، وفِي الوقت نفسه تقابل المعاملة الراقي ، والسلوكيات المتحضرة من جميع العاملين بالأوبرا ، بدءًا من رئيستها الفنانة المبدعة الراقية عازفة الفلوت الدكتورة إيناس عبد الدايم ، وحتى الموظف أو الموظفة الموجودين في شباك الاستعلامات ، تجد الجميع في خدمتك وراحتك بلا استثناء .

كان لابد من تلك المقدمة المهمة ، قبل الحديث عن الحدث نفسه الذي حضرته قبل أيام ، لتهيئة القارئ لاستقبال ما سأكتبه عن تلك الليلة الفنية الممتعة بحق .. ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة - كما يقولون - لأنها كانت لمشاهدة واحد من روائع كلاسيكيات الباليهات ، إنه باليه "القرصان" ، الذي ترك بصمة راسخة في تاريخ الباليه العالمي ، ويعد من أهم الأعمال التي عكست انجذاب المبدعين بأوروبا في القرن الثامن عشر لسحر أجواء بلاد الشرق الإسلامي ، لذا ترى أن كل أحداث الباليه تجري في قصور السلاطين ، وقاعات الحرملك ، وماتتميز به من الفخامة والرفاهية والثراء ، وأسواق العبيد ، التي كانت تجمع أشكالًا وألوانًا من أجمل النساء اللواتي وقعن في الرِّق ، وتستعرض كل منهن جاذبيتها وجمالها برقصات تسحر العيون ، وتجري عليهن المزادات بين كبار القوم للفوز بهن ، وضمهن لحاشياتهم ، حتى أصبح هذا الباليه من أهم وأشهر الباليهات في الريبرتوار العالمي ، على مر العصور .

ويحمل "القرصان" تاريخًا عريقًا ، إذ قدم لأول مرة على المسرح الملكي بلندن ، في نسخة مبكرة في العام ١٨٣٧ ، صمم رقصاتها فرديناند ألبرت ديكومب ، على موسيقى روبرت بوكسا ، وبعدها بحوالي عقدين من الزمان ، قدم المصمم المشهور جوزيف مازيلييه نسخة أخرى من الباليه ، على موسيقى أودلف آدم ، ونص مسرحي لهنري فير نوي دي سان جورج ، ثم أعيد تصميم رقصات الباليه لأكثر من مرة ، كان أشهرها النسخة التي قدمها ماريوس بيتيبا في العام ١٨٩٩ ، وأضاف فيها إلى المدونة الأصلية ألحان أحد عشر مؤلفًا ، من بينهم : ريكاردو دريجو ، وسيزار بوجني ، وأمير أولدينبرج ، وبيتر جورجفيتش ، وليو ديليب ، ولودفيج مينكوس ، وميخائيل إيفانوف .

ويقع الباليه الذي استمتعت بها قمة الاستمتاع ، في ثلاثة فصول ، اقتبست قصته من قصيدة للشاعر الإنجليزي المشهور لورد بايرون ، بالاسم نفسه ، التي قدمها في العام ١٩١٤ ، فكانت مصدر إلهام لكثير من الأعمال المسرحية والموسيقية بعد ذلك ، ثم تحولت إلى باليه ، وهو النسخة التي شاهدتها قبل أيام ، على المسرح الكبير ، بصحبة أخي وزميلي شريف الشافعي رئيس القسم الثقافي ببوابة الأهرام ، وأولادي ، الذين وددت أن أغذي عقولهم وقلوبهم بالفن الرفيع ، وأغسل آذانهم بموسيقى كلاسيكية راقية من غثاء المغنى الشعبي الذي يطارد أسماعنا الآن ، والحمد لله نجحت في مسعاي ، وأنا أراهم وهم يصفقون بقوة مع كل تابلوه راقص من تابلوهات الباليه إعجابًا وفرحًا بروعة أداء الراقصين والراقصات ، ورشاقتهم ، وخفة حركاتهم ، وجمال تشكيلاتهم .

فرقة باليه أوبرا القاهرة ، قدمت ٤ حفلات من "القرصان" ، قدمت فيها إبداعًا يفوق كل وصف ، أخرج خلاله كل نجوم الفرقة طاقاتهم ومهاراتهم ، بشكل مذهل أبهر كل الحضور بالمسرح الكبير ، الذين لم تطرف عيونهم لحظة من فرط الاندماج معهم ، ولم تتوقف أكفهم عن التصفيق عقب كل مشهد ، أو فقرة ، ومن أهمها رقصة العبيد ، ومشهد الحديقة المسحورة ، ورقصة الجاريات الثلاث ، ورقصة القرصان الثنائية ، مع سحر موسيقى أودلف آدم ، وسيزار بوجني ، وريكاردو دريجو ، وليو ديليب ، التي قدمتها بإبداع منقطع النظير فرقة أوركسترا أوبرا القاهرة ، بقيادة المايسترو الإيطالي الكبير ديفيد كريشينيزي ، فتلاعبت بقلوبنا وألبابنا ، تارة وهي شرقية خالصة تهز الإحساس ، وأخرى كلاسيكية تذيب الروح ، وفِي كل مرة تبدو لنا براعة كريشينيزي ، وهو يتحكم في الإيقاع ، على تصفيق الجمهور .. وكل هذا ممزوج بروعة الديكورات التي أعادتنا لأجواء الشرق المبهرة ، كقصر سعيد باشا ، وحديقة القصر ، وسوق العبيد ، وجناح الحريم .

وجاءت الرقصات ، التي صممها ماريوس بيتيبا ، وفلاديمير فلاديميروف ، وأضاف لها العملاق الراحل عبد المنعم كامل ، وكأننا نشاهد تابلوهات من الباليه التراثي التاريخي العالمي المشهور "ألف ليلة" ، قوة .. مهارة .. جمال ، تناسق .. إبداع ، بفضل مرونة وقوة أجساد الراقصين ، وعلى رأسهم نجم الفرقة الأول ممدوح حسن بجسده الفارع الذي جسد البطل "نور الدين" في القصة ، وفارسها المميز أحمد نبيل "على خادم نور الدين" برشاقته المذهلة ولياقته العالية ، والشاب الواعد إسلام الدسوقي "أحمد تاجر الجواري" بمرونته الفائقة ، وبنيانه المقسوم ، وجمال وتناسق ورشاقة أجسام الراقصات ، وبخاصة "البطلة ياسمين" التي لعبت دورها الباليرينا الصربية الفاتنة نجمة الفرقة آنچا آهسين ، التي أبدعت بجمالها وإحساسها ، والباليرينا الأوكرانية الممشوقة كاترينا زيبرزينيا "جلنار حبيبة علي" ، مع هارموني مذهل بديع مابين الرقصات ، والتشكيلات الحركية ، وتصاميم الملابس الشرقية ، وألوانها الزاهية التي تبرق في العيون ، زاد الباليه سحرًا وجمالًا .

وتدور قصة الباليه الشيقة في بلاد الشام ، حيث تتحطم سفينة القراصنة في البحر بالقرب من أحد الموانئ المطلة على مضيق البوسفور ، بسبب عاصفة شديدة ، وترمي الأمواج بقائد السفينة القرصان نور الدين ، وخادمه على ومجموعة من القراصنة ، على الشاطئ ، لتعثر عليهم بعض الفتيات ، تقمن بإنقاذ الجميع من الموت ، ومنهن ياسمين وجلنار اللتان تسحبان نور الدين وعلي من المياه ، وبعد إفاقتهما ، يقع نور الدين في غرام ياسمين ، وعلي في حب جلنار ، وفجأة ينقض عليهم جميعًا تاجر جواري يدعى أحمد ومعه عسكر المدينة ، ويأسرون كل الفتيات بمن فيهن ياسمين وجلنار ، في حين اختبأ نور الدين ، وعلي ، وتتبعا خطوات أحمد ، الذي وصل بالفتيات لسوق الجواري لبيعهن للأثرياء ، ويعقد حلقة تقدم فيها كل فتاة مواهبها في الرقص أمام الراغبين في الشراء ، فيظهر بينهم الثري سعيد باشا ، الذي يعجب بياسمين وجلنار ، ويقرر شراءهما ، وهنا يظهر نور الدين متخفيًا في ثوب تاجر ، مع على ومجموعة من رفاقه القراصنة الذين نجوا معه ، ويحاول شراء ياسمين ، فتحدث مشاجرة بينهما ، ليكشف نور الدين عن حقيقته ، فيخطف سعيد باشا ياسمين وجلنار بمساعدة عساكره ويهرب بهما للقصر ، ولم يجد نور الدين أمامه سوى تاجر الجواري أحمد فيقبض عليه ، ويعرف منه مكان قصر سعيد باشا .

وفِي الفصل الثاني ، الذي يشدك بأحداثه المثيرة ، يدخل سعيد باشا لجناح الحريم ، ويأمر خدمه بإحضار ياسمين وجلنار ، ويعرض عليهما حبه ، لكنهما يرفضان بشدة ، فيثور ويخرج غاضبًا من الجناح ، وفِي تلك الأثناء ينجح نور الدين وخادمه علي ومعهما التاجر أحمد في تسلق سُوَر القصر والدخول للحديقة ، ويقوم أحمد برشوة الحراس ، ويصل الثلاثة لياسمين التي تلتقي حبيبها نور الدين ، وجلنار بعلي ، لكن يدخل فجأة سعيد باشا ، ويأمر حرسه بالقبض على الأحبة ، وتدور معركة بين الجانبين ، يسقط خلالها نور الدين أسيرًا ، ويُغشى عليه من الضرب ، لينفصل عن الواقع ، في حلم جميل ، تتحول فيها حديقة القصر لحديقة مسحورة ، ترقص فيها الحسناوات ، وهو يعيش الحب مع ياسمين ، حتى يفيق على صوت رفاقه من حوله ، وقد حرروه من الأسر ، ليدخل عليهم في تلك اللحظة سعيد باشا بعسكره ، من جديد ، وتدور معركة أخرى ينتصر فيها القراصنة ، ويحررون ياسمين وجلنار والفتيات ، ويهربون بهن .

وأخيرًا ، يختتم الباليه بأجمل مشهد حيث يبحر القراصنة بالفتيات ، بعيدًا إلى جزيرتهم ، ومعهم أحمد التاجر ، الذي يصفح عنه نور الدين ، ويحتفل الجميع بالتئام شمل الأحبة الأربعة ياسمين على نور الدين ، وجلنار على علي .

وقبل أن أختم مقالي الطويل ، سأقدم باقتين من الورد ، الأولي للراقية الرائعة عازفة الفلوت الأولى في مصر الدكتورة إيناس عبد الدايم ، عاشقة الجمال ، لما تتيحه لنا من إبداع وفن راقٍ عظيم ، وجهودها المستمرة في الارتقاء أكثر وأكثر بهذا الجمال ، والباقة الأخرى أهديها من كل قلبي لمديرة فرقة باليه أوبرا القاهرة ، التي تستحق لقب المرأة الحديدية أرمينيا كامل ، الباليرينا المذهلة ، أرملة الراحل العظيم راقص مصر الأول ، ورئيس دار الأوبرا الأسبق عبد المنعم كامل ، التي قادت المسيرة من بعده بكل تفانٍ وأخلاص ، فأبدعت في الإدارة قمة الإبداع باختياراتها المثالية للراقصين والراقصات ، والالتزام والانضباط ، والنظام ، الذي فرضته بقوتها الناعمة ، وأكثر ما أبهرني وأبهر الجميع جسدها الرشيق ، الذي يغلب فتاة ذات عشرين ربيعًا ، لتكون أنموذجًا رائعًا للجسد المثالي لكل أعضاء الفرقة ، والجمهور ، وأي باليرينا في مقتبل العمر على أول الطريق .. تحياتي أرمينيا أمتعتينا ودومًا تمتعينا بفرقة الفن والجمال والإبداع .. فرقة باليه أوبرا القاهرة .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف