لا أذكر متى تعلمت قراءة الحروف، ولكني أذكر أنني حين دخلت المدرسة كنت أعرفها جيدا، أستطيع أن أقرأها وأكوِّن منها كلمات مختلفة، لا بد أن أحدا ما قد لقنني سرها وجعلني أتتبع أشكالها المختلفة، هل هو أحد كتاتيب تحفيظ القرآن القديمة، أم معلم مجهول استقدمه أبي ولم أعد أتذكره؟ ولكن هذا بعث شيئا في روحي، فقد أدركت مبكرا تأثيرها السحري، وكيف تملأ روحي بالمعاني، إنها رموز، مفاتيح لعوالم أخرى غير مرئية، لقد أدمنت فعل مطالعة الحروف، واكتشفت أن أسعد لحظات طفولتي هي التي قضيتها وأنا أبلل أصابعي لأقلب صفحات كتاب، لا يهم الموضوع، المهم فعل القراءة، لا يهم ما يتبقى في الذهن وما سينسى، أو كان مفيدا أو تسلية عابرة، فعل القراءة هو الذي ينقذك من قيود الواقع وينقلك إلى عالم آخر.
في المدرسة كان هناك كتاب قديم، غير ملون ومليء بالكلمات والحكايات البسيطة، قرأته كله في أيام قليلة، استعصت عليَّ بعض الكلمات ولكني استنتجت معناها، ولكن بعد مضي بضعة أسابيع تم سحب الكتاب منا، وسلمونا بدلا منه كتابا ملونا، فيه الكثير من الصور والقليل القليل من الكلمات، الكتاب الذي اشتهر فيما بعد باسم كتاب شرشر، وكانت أشهر جمله "شرشر نط عند البط"، لم أعرف في حياتي شخصا باسم شرشر ولم أدر من أين جاء مؤلفو الكتاب به، لقد كانوا يبحثون عن إيقاع الكلمات قبل البحث عن معناها، وقد قرأت الكتاب في الأيام الأولى وأصبح عليَّ أن أتجرعه لبقية العام، لم يكن كافيا لإشباع نهم طفل صغير، ولكني بدأت ألجأ إلى مكتبة المدرسة، ودهش أمينها وهو يراني أمسك بعض الكتب المعقدة وسألني في دهشة: هل تفهم حقا ما تقرأ؟ لم أكن أفهم ولكني لم أستطع أن أبعد عيني عن السطور، لقد اكتشفت سر البشرية الأعظم، وهو اللغة، وسيلة التفاهم العظمى.
إحدى رحلاتي المبكرة كانت إلى مدينة بلجراد، كانت تعيش في أجواء حربها مع الكروات، وتستعد لأن تستدير وتخوض حربا دامية أخرى ضد البوسنة والهرسك، كانت يوغسلافيا القديمة تعيش حالة من التفكك الرهيب، ولم يكن مواطنوها قادرين على التفاهم مع بعضهم وبعض، فما بالك مع الآخرين، لم يكن يوجد في ليل المدينة إلا المحلات المغلقة والقليل من المارة، كانت مستغرقة في كآبتها القديمة، لا مكان فيها للسهر غير هذا.. كازينو القمار المفزع وأندية التعري، ولكني لمحت كشكا خشبيا صغيرا ما زال ساهرا، تتصاعد منه أبخرة شهية، علامة جاذبة لجائع مقرور مثلي، كانت البائعة صبية يافعة فاتنة الجمال، أجدر بها أن تكون موديلا أو نجمة سينمائية بدلا من الوقف أمام هذا السطح الساخن الذي تقلي عليه أصابع السجق، في هذا الليل وتلك الوحدة كان يجب أن نتكلم معًا، نحاول أن نتعرف على بعضنا، دون لغة مشتركة، لا إنجليزية ولا فرنسية وبالطبع لا عربية، استخدمنا كل أنواع الإشارات والجمل المبتورة، دون أمل، ودون أن يكون هناك مجال للتلامس إلا بأطراف الأصابع، التهمت "الساندويتش" الساخن في صمت، ثم دخلنا في جولة ثانية من الحوار المتعثر، أحضرت هي ورقة وقلما وتداخلت أصابعنا ونحن نخط لبعضنا حروفا غامضة، دون جدوى، بالكاد عرفت اسمها ونطقت اسمي بطريقة معوجة، ظللنا واقفين أمام بعضنا ونحن نلهث من فرط الجهد وخيبة الأمل، بدا لي أن جمالها قريب المنال إلى حد لا يصدق، لولا ذلك الحاجز الذي لم نتمكن من اختراقه.
إنه حاجز اللغة الذي قسم الدنيا إلى قوميات وعرقيات متفرقة ودائمة التناحر، لسان كل واحد منها مثقل بلغته القديمة، تفرق بينها خمسة آلاف لغة، ورغم إصرار علماء اللغة على أن اللغات كلها قد نبعت من "جين" واحد، فإن هوة عدم التفاهم بينها ظلت تتسع، نتيجة طبيعية للصراع الذي لم يهدأ بين القبائل والأقوام المختلفين، فالسلام التام لم يسد أركان المعمورة طوال تاريخها إلا لمئة وخمسين عاما فقط، وكانت المرأة هي التي أهدتنا اللغة، بينما تعلم الرجل أن يلتزم الصمت عندما يخرج هو ورفاقه للصيد حتى لا تفلت منهم الحيوانات، تجلس النساء داخل الكهوف، يغزلن الصوف ويطهين الطعام دون أن يتوقفن عن الثرثرة واستنباط الكلمات، وعندما يلدن تودع كل أم طفلها سر الكلمات فتنتقل وديعتها من جيل لآخر.. فتكاثر اللغات مرتبط بقدرة المرأة على التكاثر. وقد استغرق بناء المجتمعات البشرية حوالي مئة وعشرين ألف عام، وكان اكتشاف اللغة حدثا جللا في كل المجتمعات القديمة، فقام المصريون بحفر الهيروغليفية على جدران الصخور وأعمدة المعابد، ونقش الآشوريين والبابليين حروفهم المسمارية على ألواح الطين، واخترع الصينيون الورق من أجلها، وغزلها أهل فارس على الأبسطة والسجاد، ودوَّنها عرب الصحراء على رق الغزال وصنع أهل الغابة منها تعاويذ على لحاء الشجر، واتسعت رقعة العالم وتكاثرت الألسنة، وتحولت اللغة إلى أداة من أدوات الغزو. أدركت الجيوش المتسلطة أنها لن تفرض إرادتها إلا بعد فرض لسانها، ونجحت بعض اللغات في ذلك، الإسبانية ما زالت باقية بين شعوب أمريكا اللاتينية، وينتج كتابها نصوصا أفضل من الإسبان أنفسهم، وبقيت اللغة العربية، لأنها ارتبطت بالدين، واعتبرتها الأقوام التي فتحها الإسلام بمثابة لغة للخلاص والتطهر، وتواصلت الإنجليزية لأنها لغة ذكية، استطاعت أن تتعايش مع اللغات المحلية الأخرى، وتتلون مع مختلف الألسنة، وأحس العالم بحاجته إليها حين أصبحت لغة المال والتجارة، وقدمت الإنجليزية للهند أكبر خدمة في تاريخها، فبفضلها استطاع سكان شبه القارة أن يتفاهموا ويتوحدوا في لغة واحدة بعد أن كانت تفصل بينهم 21 لغة مختلفة، وانحطت مكانة الفرنسية بعد أن هجرتها الطبقة الأرستقراطية والدبلوماسية، واستقلت عنها دول إفريقيا، رغم أن بعض الجزائريين يعتبرونها غنيمة حرب، وتبددت الروسية من شرق أوروبا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ولا تكف اللغات الضعيفة والمحدودة عن الموت، في كل عام تموت لغة أو لغتان، وفي غضون عقد من الزمن لن توجد إلا اللغات الكبرى، وقد بذلت الأمم المتحدة جهودا مستميتة من أجل خلق لغة عالمية، على أمل أن يتكون مجتمع إنساني موحد، وتبنت لغة "الإسبرينتو"، وهي لغة مصطنعة، اخترعها العالم البولندي "لودفيك زمنهوف" في أواخر القرن التاسع عشر، في محاولة لاكتشاف لغة سهلة التعلم، تصلح لكل الألسنة، ولكنها لم تنتشر إلا وسط دائرة ضيقة من هواة اللغات الغريبة، رغم أن العالم كان متأهبا للغة عالمية واحدة، كما لم يحدث من قبل.
لقد تحقق ذلك بشكل ما، وقد كنت حاضرا وشاهدا، فعلى مدى أربعة عشر عاما من الترحال والسفر عبر الحدود قدر لي أن أشاهد أروع الأحداث البشرية، رأيت العالم وهو يفك عقدة لسانه، ينطق الإنجليزية ببطء، يثغو ويثأثئ كطفل، ثم يكون جملا مضحكة كلماتها محرفة، ولكنه يدعمها بلغة الجسد والإشارة، تظهر أجيال جديدة، يولدون ولديهم هبة طبيعية في التعامل مع وسائل الاتصال الحديثة، فيتواصلون ويتفاهمون ويعشقون عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بل ويجهزون أيضا للثورات، وزاد من انتشار الإنجليزية زيادة السطوة الأمريكية بعد انهيار السوفييت، فمن لحظتها لم تكف الإنجليزية عن الزحف، تغلغلت حتى بين أشد الأقوام تعصبًا للغاتهم كالفرنسيين والألمان، ولم تعد دون حاجة لاختراع لغة جديدة، ومهما يمكن أن يقال عن هذه اللغة وتاريخها الاستعماري فقد وهبتنا جميعا القدرة على التفاهم والتحدث سويا، في عام 2002 كنت في ميدان "الجراند بالاس" في قلب بروكسل، ورأيت شبابا وشيوخا من كل أجناس العالم، بيض وصفر وسود، يتحدثون سويا كأنهم ولدوا في بيت واحد، تختلط كلمات صفقات الأعمال مع عبارات الحب وربما همسات التآمر، وفي الخلفية تتعالى أنغام السيمفونية الخامسة لتشيكوفسكي، المسماة "باثتيك" أي العاطفية، وتمنيت لحظتها لو يعود بي الزمان إلى شوارع بلجراد لأقف أمام فتاة الكشك الصغيرة وأتفاهم معها ربما نصل لشيء ما.