صفوت البياض
دعوة وطنية إلى وسطية عملية
تتكرر عبارة الوسطية على ألسنتنا من كبيرنا لصغيرنا، مثقفين وبسطاء، نسمع عبارة «خير الأمور أوسطها»، فالوسطية لغة هى مصدر صناعى يدل على التمكن فى الوسط، كما أن كلمة وسط تدل على العدل والإنصاف، فيقال «أعدل الشىء أوسطه»، والمراد هنا هو تحقيق العدالة. وفى ذلك يقول الشاعر:
لا تذهبن فى الأمور فردًا.. لا تسألن إن سألت شططًا.. وكن من الناس جميعًا وسطًا. ويقال هذا الرجل وسيط فى قومه. كما أن الوسط فى كل شىء أعدله وأجوده. كما يقال «إن الوسط بين ممدوح ومذموم يكون من الأجود والأفضل، فأعدل الأشياء أوسطها».
ومن الجانب الفلسفى نجد أن أرسطو فى فلسفته الأخلاقية يقول إن الحق هو وسط بين طرفين، وجعل هذا المبدأ أساسًا للفلسفة الأخلاقية، فيقول إن الفلسفة وسط بين رذيلتين. فالطريق الوسط فى رأيه هو أساس الفضيلة التى هى وسط بين طرفين كلاهما رذيلة، ويقيس بأمثلة من الواقع فيقول: فالشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والكرم وسط بين الشح والإسراف، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والطموح فضيلة بين الكسل والاندفاع، والصداقة فضيلة بين التملق والمقاطعة، وهكذا تتعدد الأمثلة.
ويتفاخر فلاسفة اليونان بأن منهج الوسطية هو ما يميز الفلسفة اليونانية، حيث كان المبدأ فى ذهن أفلاطون عندما عرف الفضيلة بأنها انسجام فى العمل، كما عرفها سقراط بربطها بالمعرفة لتقود إلى انسجام فى العمل. وربط أرسطو نظريته فى الأخلاق من مفهوم الوسط السياسى، وقد كان هذا المفهوم سائدًا لدى ملوك الفراعنة.
واليونانيون ساروا على ذات النهج من ذات المنطلق الأخلاقى وفى الفنون والبناء والهندسة بوجه عام.
أما السؤال الذى طال النقاش حوله فهو مكانة الوسطية فى الأديان، ففريق أجازه وآخر قاده الشطط إلى غير هدى، فإذا ما بحثنا فى أفكار الفيلسوف الشهير «توماس الأكوينى»، وهو كاثوليكى المذهب عاش فى القرن الثالث عشر، فقد دافع عن مبدأ الوسطية، وأطلق على هذا المبدأ «الوسط الذهبى» وما يقصده هو إعمال هذا الفكر فى الكنيسة ودعاه «الفكر المسيحى الوسيط». أما توماس الأكوينى ومن منطلق خلفيته الدينية، فهو لا يرى انطباق الوسطية إلا على الفضائل البشرية، أما الفضائل الروحانية، أى الدينية، فلا تخضع لهذا القياس.
أما النموذج الآخر فقد خرج من الكنيسة الإنجليكانية أو الأسقفية ويستدل بترجمة الإنجيل إلى لغة الشعب أى الإنجليزية فى عام ١٥٤٤ ميلاديًا، وجاء فى مقدمة الترجمة «إن حكمة رجال الكنيسة أنها قبلت أول ترجمة للإنجيل إلى لغة الشعب بعد أن كان مقصورا على لغة رجال الدين لإيماننا بأن ذلك هو أُسلوب الطريق الوسط».
ومن الضرورى أن نتعرض لمبدأ الوسطية السياسية، حيث انطلق هذا الفكر من إنجلترا أولًا وفى ظروف اشتد فيها النزاع بين الملك والبرلمان، ومع شدة ما عرف بالحرب الأهلية عام ١٦٨٨ واتفق الإنجليز على مبدأ الحلول الوسطية والاعتدال دون شطط، وكان فى ذلك تآلف وقبول ورضا بين الحاكم أو الملك والشعب. ولا يزال حتى وقتنا هذا تسير إنجلترا على هذا المبدأ.
كما ظهر هذا المبدأ فى فرنسا فى زمن متقارب، أى عام ١٨٣٠ ميلاديًا، وقيادة لويز فيليب فض النزاعات بين الحاكم والشعب، الأمر الذى عارضه فى البداية «لافاييت» بالقول: إن الوسطية والاعتدال لا يعطيان الثقة فى تعبيرات غير محددة. ومع ذلك الخلاف فقد ظل مبدأ استخدام الوسطية أو الطريق الثالث، كما أطلق عليه قائمًا وسائدًا.
والتاريخ يسجل أن مبدأ الوسطية الأساسية قديم ومتأصل فى أذهان الشعوب والحكومات بل قيل إنه مبدأ استخدمه الإنسان فى القرن السابع عشر قبل الميلاد حتى وجدت العبارة التى تقول «يوجد الأمان فى الطريق الوسط». والشاعر الألمانى جوتة يسجل العبارة «تنبع السعادة الحقيقية من الوسطية والاعتدال».
كما يرى بعض المفكرين أن طبيعة المصريين وموقعهم الجغرافى يقول إننا شعب وسطى، أى أن هويتنا المصرية الحضارية إذا ما قارناها بحضارات أخرى فى تاريخها البشرى فسنكتشف أن الحضارة المصرية حضارة وسطية، فالهوية المصرية بتاريخها الحضارى الزاخر يشهد أن الحضارة المصرية هى حضارة وسطية.