الدستور
أحمد سليم
روح أكتوبر تعيد ترتيب المشهد الداخلي والعربي
الأجيال التى لم تشهد بطولات حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر، والتى لم يقدر لها أن تعيش سنوات التهجير، وربط الأحزمة وتوجيه كل موارد الدولة للمجهود الحربى- هى أجيال فاتها الكثير، ومن هذه الأجيال ظهر جيل المحاربين على صفحات الفيس بوك والمناضلين فى تويتر.
وظهرت النخبة التى ادعت أنها تعرف كل شىء وإنها خلقت لتقود وتنظّر وتفسر وتحكم.. لا لوم على جيل لم يتم تربيته تربية صحيحة ولكن اللوم يجب أن يوجه فى معظمه إلى الجيل الذى ربّى.. لأنه أولا جيل تربى ونشأ على يد أجيال سابقة علمته حب الوطن وقيمة الانتماء والتضحية.. جيل الآباء الذى شغلته الحياة بحلوها ومرها وضغوطها هو المسئول الأول عن جيل خرج فقط ليعترض ولينادى بحرية لا يفهم معناها ويضيع، فيما نشأت عليها أجيال دفعت حياتها فداء لوطنها وحبا وتقديسا لترابه.. فى مثل هذه الأيام.. كانت ملايين المصريين تحلم باستكمال فوازير رمضان وتنتظر ساعة الإفطار.. وكان أبناء المصريين من الطلبة يتوجهون إلى مدارسهم وجامعاتهم لا يدركون أنهم مقبلون على لحظات ستغير وجه التاريخ.
كنا طلبة فى المدرسة الأحمدية الثانوية بطنطا، وساعة أن انطلق أبناء مصر ليعبروا قناة السويس.. انطلق بنا قطار الثانية ظهرا لنصل إلى قريتنا، ونسمع أن هناك حربا قامت وأن طائراتنا تدك معاقل العدو.. اتجهنا إلى مركز الشباب وكذا أبناء آلاف القرى.. كنا جميعا أبناء المحافظات ومعهم أبناء محافظات القناة المهجرون من محافظاتهم أثناء حرب الاستنزاف.. كان الطلبة من الثانوى والجامعة وحتى طلبة الإعدادى والثانوى يعيشون لحظات فارقة فى حياتهم.. كانت صور جنودنا العائدين من سيناء قبل ذلك بست سنوات وهم ممزقو الملابس ينتظرون خبزا أو ماء وفى عيونهم الانكسار والحزن، كانت أكثر ما نخاف تكراره فى هذه اللحظات.. وقدر الله لنا أن نعيش لحظات الهزيمة فى الستينات ثم لحظات النصر فى السبعينات، ثم ما تلاها. هذا الجيل وما بعده هم آباء هؤلاء الذين خرجوا فى يناير ٢٠١١ تحت راية الدعوة إلى الحرية والديمقراطية.. خرجوا وانساقوا وراء مجموعة كانت تدبر لانهيار الدولة وليس فقط إسقاط نظام.. هؤلاء الشباب الذين خرجوا فى يناير ببراءة وحماس سقطوا وأسقطوا الدولة معهم فى دوامة قدر الله لأبناء القوات المسلحة وأبناء أبطال أكتوبر أن يستعيدوا زمامها وتصحيح مسارها مرة أخرى.. هذا الجيل نتحمل نحن وأجيال سابقة ذنب أنه ترك بلا هدف، فالآباء يعملون ليل نهار لتحقيق أحلام أبنائهم، ولكن أغلبهم نسى وسط كل ذلك تربية الأبناء.. وإذا كانت الحرب الاجتماعية هى الجولة الأخيرة بعد الحروب العسكرية والسياسية والاقتصادية قد بدأت ملامحها فى الظهور، فهى ليست وليدة أحداث حفلة التجمع، ولكنها ربما الحلقة الأخيرة من مسلسل بدأ فى الستينات وأجهض تكرار إنتاجه فى كل السنوات التالية، ما بين ظواهر الخنافس والهيبز والأفلام الداعية للعنف والجنس والتطرف، ومن شكرى مصطفى وسالم رحال إلى حركة حسم ظلت دول ومعسكرات خارجية تنظر إلى مصر باعتبارها الجائزة الكبرى وأن سقوطها يعنى بداية تقسيم جديد للشرق الأوسط الذى ستقوده إسرائيل فى حلمهم. ما حدث بعد نكسة يونيو من انهيار أخلاقى وتراجع فنى وثقافى وأزمات اجتماعية وظواهر غريبة هو ما حدث بعد يناير للأسف الشديد.. وكما كان حلم الشباب فى مظاهرات ٦٨- ٦٩ النصر وتحرير الأرض، دون وعى أن هناك طرقا أخرى للتحرير يعمل عليها آباء لهم فى صمت وباحتراف.. جاء حلم الشباب بالديمقراطية فى يناير ٢٠١١ وهم لا يدركون أن النهاية ليست فى صالحهم ولا صالح وطنهم.. كما تحمل أبناء القوات المسلحة ست سنوات من السخرية والنكت وقصائد الشعراء.. وكما تحمل الجيل الأول من قواتنا المسلحة، تحمل وصبر وعبر وحقق النصر ومحا آثار الهزيمة وأعاد البسمة والكرامة للمصريين، وكما عشنا لحظات عودة الجنود المنسحبين من سيناء.. عشنا لحظة عودة الأبطال محمولين على الأكتاف حبا واحتراما واعتزازا.. كما تحمل الجيل السابق كل ذلك.. جاء جيل جديد من أبناء القوات المسلحة ليعيد السيناريو بشكل آخر فهذه المرة كان العدو بيننا وغير ظاهر بشكل كاف واستطاع التسلل إلى عقول الآلاف من الشباب، ولكن بصبر أبناء القوات المسلحة وحنكة القادة وتعودهم الصبر استطاعوا أيضا العبور من السنوات الست التالية ليناير، استطاعوا العبور مرة ثانية ومعهم أيضا الشعب الواعى المدرك لما يمر به الوطن، وجاء أكتوبر ٢٠١٧ ليعيد للأذهان أكتوبر ١٩٧٣.. فى الثانى حررنا الأرض وعبرنا الهزيمة وفى الأول نعمر الأرض ونتجاوز المؤامرة.
مصر التى عبرت فى ٧٣.. نجحت أيضا فى العبور من المحنة والمؤامرة فى ٢٠١٧، ولعل مشهدا جديدا امتلأت به وسائل إعلام العالم الأسبوع الماضى لصقور المخابرات المصرية وهم يدخلون غزة وسط هتاف الآلاف ليعيدوا ضبط المشهد الغزاوى ولتتوارى شخصيات فلسطينية وقفت ضد مصر كثيرا، وليبقى فقط أبناء فلسطين الحقيقيون الذين يعرفون قيمة مصر العروبة.. لعل هذا المشهد يحمل التأكيد على دور مصر ويؤكد أيضا أن هناك ملاحم على طريق النصر وآمالا يقترب تحقيقها، ومصر بقيادة وطنية حكيمة تعيد ترتيب المشهد العربى.. ولا عزاء لتميم وأخواته.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف