د. محمد عفيفى
السينما والتاريخ.. محمد على باشا
تبدأ فصول هذه القصة بعد ميلاد الملكية المصرية، التى ولدت على إثر تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢، الذى رفضته القوى الوطنية المصرية آنذاك. إذ سعى القصر إلى توظيف السينما لخدمة الملكية الوليدة، وتدعيم نظام أسرة محمد على، مثلما وظف القصر العديد من المؤرخين الأجانب والمصريين للكتابة عن تاريخ محمد على، وأيضًا إسماعيل، أجداد الملك فؤاد، من أجل تأكيد مشروعية الملكية المصرية الوليدة.
إذ طرح المخرج التركى «وداد عرفى» فى عام ١٩٢٦ مشروعًا لإنتاج فيلمين، أحدهما عن محمد على باشا، والآخر عن إسماعيل. إلا أن مشروعه سيفشل مع استقالة وزارة زيور باشا، بعد فشلها فى الانتخابات التى جرت فى مايو ١٩٢٦، ومجىء وزارة عدلى يكن.
لكن مشروع فيلم تاريخى عن عصر محمد على لن يموت، وسيسعى القصر دائمًا، لا سيما فى عهد حكومات الأقلية الموالية له، لإحياء المشروع من جديد.
إذ ترفع السكرتارية الخاصة للملك فاروق مذكرة فى يناير ١٩٤٦ يتضح منها أن الملك قد أصدر سابقًا أوامره لسكرتاريته بالاتصال بشركة مصر للتمثيل والسينما، التابعة لبنك مصر، لدراسة مشروع السيناريو الذى وضعه أحد الإنجليز باللغة الإنجليزية وتمت ترجمته إلى العربية، لعمل فيلم عن حياة محمد على.
وإذا ألقينا نظرة سريعة على مشروع سيناريو الفيلم فإننا سنكتشف ركاكة هذا السيناريو، فضلًا عن الطابع الأيديولوجى الدعائى فيه، هذا إلى جانب الأخطاء التاريخية التى وقع فيها هذا المشروع الذى لم تتجاوز صفحاته أربع صفحات.
يلعب السيناريو بشدة على فكرة النبوءة، ويستلهم ربما روح الأساطير الإغريقية، لا سيما مع مولد محمد على فى مدينة قولة المقدونية، فالاسم المُقترح كعنوان للفيلم هو «الجعران». وهو هنا يستخدمه كتميمة فرعونية، ومعروف ما للجعران من قداسة فى مصر القديمة.
يبدأ السيناريو بفتى صغير على تلال مدينة قولة، لا يهتم بما يهتم به الناس، متأملًا فى الطبيعة، باحثًا عن المستقبل الذى تخبئه له الأقدار. وفجأة يعثر الفتى محمد على على خاتم به جعران ويقلبه فى يده، وفى نفس اللحظة يصادف عرَّافا غجريا قادما من مصر، ومن سيوة بالذات، وسندرك بعد قليل لماذا سيوة. ويخبر العرَّاف الفتى بأن له مستقبل عظيم فى مصر، وسيزور سيوة التى زارها من قبل الإسكندر المقدونى.
ونلاحظ هنا مقدار الربط بين الإسكندر ومحمد على، فكلاهما من مقدونيا؛ وكلاهما حكم مصر؛ وكلاهما لا بُدَّ له من زيارة سيوة حيث معبد آمون، واكتساب صفة الحاكم الإله.
ويسير السيناريو معنا إلى مجىء محمد على على رأس قوة ألبانية إلى مصر، ثم الاضطرابات الداخلية السابقة على توليه الحكم. ثم يركز على مسألة مبايعة الشعب المصرى له.
ويحاول الكاتب تمرير مسألة مذبحة القلعة، التى قضى فيها محمد على على المماليك، كما يبرر موقف إنجلترا المُعادى لمحمد على، بسبب قيامه بهذه المذبحة.
ونلاحظ ضحالة المعلومات التاريخية لكاتب السيناريو، فضلًا عن وقوعه فى أخطاء تاريخية فادحة، فعلى سبيل المثال يُسمى مذبحة القلعة بـ«مذبحة الأزبكية». وربما هذا ما دعا سكرتارية الملك إلى طلب تدخل الجمعية التاريخية لمراجعة السيناريو.
ثم ينتقل الكاتب بعد ذلك لتصوير عظمة انتصار جيش محمد على على الجيش العثمانى، ووصول جيوش محمد على إلى الأناضول، ودقها لأبواب إستانبول. ويضع كاتب السيناريو ملاحظة هامة أن محمد على بانتصاراته هذه قد أصبح فى عيون الجميع حتى فى إستانبول «بطل الإسلام»، وأن محمد على كان يتطلع إلى كرسى الخلافة.
هنا مثال جيد على توظيف التاريخ لخدمة أهداف السياسة الحالية للقصر، هذا يذكرنا بمحاولات الملك فؤاد إحياء الخلافة من جديد بعد سقوط الدولة العثمانية، ومعركة كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبد الرازق. وهذا يجرنا أيضًا إلى تلقب الملك فاروق بلقب «الفاروق» و«الملك الصالح»، فضلًا عن محاولاته للاستفادة من زعامة مصر للعالم الإسلامى، أو للعالم العربى لا سيما بعد تأسيس جامعة الدول العربية فى عام ١٩٤٥.
كما يعود السيناريو من جديد لذكر فضل محمد على على مصر، وهو فضل لا ينكره أحد. فيتحدث عن إصلاحات محمد على الداخلية ويستشهد بمقولةٍ له:
«أوَّد لو يساعدنى حظى على أن أكرس كل مجهودى فى إحياء الصناعة والتجارة».
ويحاول السيناريو دائمًا ربط الماضى بالحاضر، وفى هذا دلالة على الطابع الأيديولوجى لمشروع الفيلم، إذ يذكر أن حلم محمد على فى تحول مصر إلى بلد صناعى تجارى قد تحقق على يد حفيده فاروق بعد عشرات السنين.
وتتجلى الأيديولوجيا وتوظيف التاريخ فى مشهد النهاية؛ محمد على مرة أخرى على تل عال، مثل بداية السيناريو، لكنه هذه المرة على القلعة فى القاهرة، وتعود أسطورة الجعران من جديد، إذ يكتشف أحد العمال أثناء بناء مسجد محمد على «جعران» آخر، فيقدمه لمحمد على، الذى يأخذه وينظر إليه ويتذكر أيام فتوته فى تلال قولة، والجعران الأول، ونبوءة الغجرى، وسيوة والإسكندر الأكبر، وفجأة مشهد النهاية صورة للملك الراحل فؤاد، والتاج الملكى، وطائرة تطير فوق أبوالهول.
هنا قمة الأيديولوجيا، والطابع الاستشراقى القديم، الذى يذكرنا بلوحات المستشرقين فى القرن التاسع عشر؛ نهضة مصر القديمة ويمثلها دائمًا «سفنكس» أبوالهول، والربط بينه وبين محمد على صانع مصر الحديثة، ثم الطائرة رمز الحداثة والتطور الذى دخل إلى مصر فى عهد الملك فؤاد، ومن هنا مبرر ظهور صورته والتاج الملكى على الشاشة.
سيناريو ركيك، ضعيف تاريخيًا، ملغوم بالأيديولوجيا، ربما لهذا لم يُكتَب له النجاح، إذ للأسف الشديد لا نعثر فى الوثائق على ما يفيدنا حول مصير هذا السيناريو.