الأهرام
د. هالة مصطفى
نحن أيضا نسىء إلى الدولة!
كثيرة هى الانتقادات الخارجية, التى تعرضت لها مصر فى الآونة الأخيرة متعمدة الإساءة إلى الدولة, منظمات حقوقية دولية تحمل أجندات خاصة وتقارير مسيسة تقف وراءها حكومات دول معادية وغيرها من أمور مشابهة, لا نواجهها بالجدية المطلوبة, بل نتصدى لها فى الغالب بإعلام غير مسئول, يمتلك صوتا عاليا, ولكنه فارغ من المضمون, أو نكتفى بوضعها ضمن إطار نظرية المؤامرة فى قوالب جاهزة نمطية غير مقنعة لغيرنا, ولا تصلح سوى للاستهلاك المحلي, ورغم ذلك فليس هذا ما يتوقف عنده هذا المقال, وإنما عند مظاهر أخرى تحدث فى الداخل وتُسهم, حتى دون قصد, فى رسم صورة سلبية عن الدولة المصرية.

لنأخذ بعض الأمثلة لقضايا فرضت نفسها على ساحة النقاش العام طوال الأسابيع الماضية, أقل ما تُوصف به أنها لا تليق بدولة فى حجم مصر, كانت دوما مثالا يُحتذى ونموذجا مستنيرا رائدا لمحيطها الإقليمى كله, يأتى فى مقدمتها, الإصرار على إشاعة خطاب دينى شديد الجمود ومنهج فى التفكير يخاصمه العقل يندرج تحت بند الفتاوى الشاذة المناقضة للحس الإنسانى الطبيعي, التى أفتى بها بعض أساتذة الفقه المقارن بجامعة الأزهر, واستوجبت فى النهاية, بعدما شغلت الرأى العام بقضايا وهمية, ردا من دار الإفتاء بتحريمها وعدم شرعيتها, إلا أن ذلك وحدة ليس كافيا, فمن أصدروا مثل تلك الفتاوى استندوا إلى كتب الفقه والتراث, التى تحوى أحكاما تفصلنا عنها قرون زمنية وكانت نتاجا لسياقها التاريخى الذى وُجدت فيه, والذى اختلف يقينا عما نعايشه اليوم. إن الرد الحقيقى الجامع عليها كان فى إعلان مؤسساتنا الدينية البدء فى تنقية ومراجعة مثل هذه الكتب من المنبع وليس تتبع كل فتوى على حدة, وإلا فما معنى الحديث عن تجديد الخطاب الديني, الذى لم نُنجز فيه شيئا وتحول إلى مجرد شعار, بالمقارنة اتخذت تونس على سبيل المثال خطوات جريئة فى مجال التشريع الخاص بالمساواة بين الجنسين فى علاقات الزواج والمواريث, مستفيدة من تراثها العلمانى الذى أرسته تجربة بورقيبة لتستعيد هوية دولتها الوطنية الحديثة على الرغم من مشاركة حزب النهضة الإسلامى فى الحكم هناك, صحيح أنه صدر بيان رافض من الأزهر لها على اعتبار أنها نابعة من التجربة التونسية الذاتية ولا تخُص غيرها, إلا أن المعنى المهم المستخلص هنا, أن هناك تطويرا وإصلاحا تستهدفه الدول, ونفس الشىء ينطبق على السعودية (القياس مع الفارق) بالسماح للمرة الأولى فى تاريخ المملكة مساواة المرأة بالرجل فى حق قيادة السيارات, إنه التقدم للأمام لا الرجوع إلى الخلف.

هذا الحديث ينسحب أيضا على الضجة التى أثيرت حول الشيخ الأزهرى الذى تغنى بإحدى أغنيات أم كلثوم وأحيل للتحقيق بسببها, و كذلك قانون ازدراء الأديان, الذى أهملناه وأُغلق ملفه فى إشارة واضحة لترك الحال على ما هو عليه, ليكون سيفا مسلطا على كل صاحب رأى يسعى إلى الاجتهاد والتغيير.

قضية ثانية, تتلخص فى منع إقامة بعض المواطنين الأقباط فى إحدى القرى بمحافظة المنيا من الصلاة داخل أحد المنازل (لأنه غير مرخص ككنيسة), بدعوى إثارة مشاعر المسلمين أو بالأحرى المتطرفين, رغم أن مصر قطعت شوطا مهما فى اصلاح قانون دور العبادة كان محل حفاوة داخليا وخارجيا, فلماذا تقع مثل هذه الحوادث عديمة الجدوى والمعني, إن الانتهاء الفعلى من تحكم قوى الإسلام السياسى لن يكون إلا بالتخلص من منهجهم فى التفكير وليس فقط بخروجهم من السلطة.

قضية ثالثة, تتعلق بمقترح تعديل قانون الجنسية المصرية (رقم 26 لسنة 1975) الذى تقدمت به الحكومة ليُعرض على البرلمان فى دورته الحالية, و تضمن توسيع حالات إسقاط وسحب الجنسية, التى ذكرها على النحو التالى « كل من اكتسبها عن طريق الغش, أو بناء على أقوال كاذبة, أو صدر حكم قضائى يثبت انضمامه إلى جماعة, أو جمعية, أو جهة, أو منظمة, أو عصابة, أو كيان, أيا كانت طبيعته, أو شكله القانوني, سواء كان مقرها داخل البلاد أو خارجها, وتهدف إلى المساس بالنظام العام للدولة, أو تقويض النظام الاجتماعى أو الاقتصادي, أو السياسى لها بالقوة, أو بأى أساليب أخرى غير شرعية» وفى فقرة ثانية, تمت زيادة المدة التى يجوز خلالها سحب الجنسية ممن اكتسبها بالتجنس أو الزواج, وثالثة تتضمن صدور حكم بالإدانة فى جريمة مضرة بأمن الدولة.

الملاحظة الأساسية هنا ليست مساءلة الدولة حول حقها فى حماية أمنها القومي, ولكن فى هذه العبارات الفضفاضة التى صيغ بها المقترح الحكومي, والتى ستكون بالقطع محلا لخلافات عميقة حول تفسيرها وتعريفها, وكذلك هذا التوسع غير المسبوق فى حالات إسقاط الجنسية التى سيُطعن بعدم دستوريتها لتعارضها مع المادة السادسة من الدستور من ناحية, ولبعض مواد الإعلان العالمى لحقوق الإنسان والعهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية, والتى ستجر على مصر مزيدا من الانتقادات الخارجية هى فى غنى عنها من ناحية أخري. كان من المفترض أن يقتصر هذا التعديل على الحالات التى تم فيها منح الجنسية بقرار سيادي, وهو ما تم بالفعل إبان حكم الإخوان لأسباب سياسية بحتة, حتى يكون هناك منطق واضح بل ومشروع يمكن الاحتكام اليه.

قضية رابعة, ترتبط بدور مصر الإقليمى خاصة فيما يتعلق بالوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين, وهو دور ريادى اكتسبته بعد توقيعها معاهدة السلام مع إسرائيل وتستعيده الآن بقوة, وتكفى الإشارة إلى خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسى بهذا الخصوص الذى ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة, فى الوقت الذى لايسيطر على الساحة الداخلية سوى خطاب سياسى واحد مناقض لهذا التوجه من حيث المبدأ, موروث من الحقبة الناصرية ويحتل المساحة الأكبر فى وسائل الإعلام بشكل يكاد يكون أحاديا بل إن كل من يشغل المواقع القيادية الإعلامية ويوجه الرأى العام ينتمى لنفس الاتجاه, وهو نوع من الازدواجية لم تعد تستفيد منه الدولة, وليست بحاجة إليه.

هذا بعض من كل مما امتلأت به ساحة النقاش العام, وفيه إساءة للدولة ولكننا نفعلها بأنفسنا, وإصلاحها لن يكلف الدولة الكثير أو يشكل خطرا عليها, بل على العكس سيضعها فى مكانة أفضل تستحقها, فقط يحتاج الأمر إلى قدر من الحسم ووضوح فى الرؤية لما نريد أن نصبح عليه فى المستقبل.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف