الأهرام
خيرى منصور
اختطاف الدراما الكردية !
إن أية مقاربة لهذه الدراما التي استمرت اكثر من قرن يجب أن تأخذ في الاعتبار مسألتين، هما انفجارسؤال الهوية في العقود الثلاثة الاخيرة واستراتيجيات التجزئة التي مهدت لها بحوث استشراقية حول الاقليات في هذا الكوكب وبالتحديد في الشرق الاوسط، ورغم ان سؤال الهوية قدر تعلقه بالاكراد مُزمن الا ان ما صدرمن كتب بمختلف اللغات عن الهويات المتنازعة بدءا من كتاب الايراني داريوش وليس انتهاء بأمين معلوف وبيل اشكروفت كشفت الغاطس من جبل الجليد في التاريخ وليس في الجغرافيا، بحيث تعددت اوصاف الهويات من الجريحة النازفة الى المبتورة وكذلك القاتلة حسب تعبير معلوف .

لهذا لا يمكن عزل الاستفتاء الاخير في كردستان عن هذا المناخ المشحون وخصوصا بعد ان تزامن مع استفتاء آخر في كتالونيا بهدف الانفصال عن اسبانيا، وتهيؤ اقاليم اخرى منها اسكتلندا للانفصال عن بريطانيا, ولم يكن خروج بريطانيا عن الاتحاد الاوروبي باستفتاء مماثل مجرد تعبير عن فوبيا امبراطورية، بل هو ايضا متأثر بهذا المناخ، والمفارقة ان من ودعوا القرن العشرين بنبوءات مستقبلية عن هذا القرن تفاءلوا الى الحدّ الذي اتاح للرغائب والاخيلة مجالا في رسم سيناريوهات اشبه باليوتوبيات أو المدن الفاضلة لهذا القرن، وكان المنطلق هو هدم سور برلين، وبالتالي التبشير بهدم ما تبقى من اسوار سواء كانت من حديد وأسمنت أو من أيديولوجيات، لكن اعاصير هذا القرن هبت على غير ما اشتهى هؤلاء، وسرعان ما بدأت الاسوار ترتفع بدءا من الجدار العنصري في اسرائيل، وثمة من غلاة الطوائف من اقترحوا بناء اسوار في بغداد تفصل بين احياء كالكاظمية والاعظمية تبعا للنسبة العددية للشيعة والسنة. واستفتاء كردستان ليس الاول من نوعه في ذلك الاقليم، فقد سبقته خمس محاولات على الاقل لاعلان دولة كردية في شمال العراق كان آخرها ما اعلنه مصطفى البرزاني عام 1946وانتهت كل تلك المحاولات الى الفشل لأن الدول الأربع التي يتوزع فيها الاكراد قد تختلف في قضايا واستراتيجيات عديدة باستثناء استراتيجية واحدة هي الحيلولة دون قيام دولة كردية، وهذا ما حدث بالفعل أخيرا اذ تحول الاستفتاء من ضارة للاكراد الى نافعة لجيرانهم، وتقارب الايرانيون مع الاتراك رغم توتر العلاقات ، وكذلك اشترك العراقيون مع الاتراك في مناورات اطلقت رسائل تحذير الى اربيل، ورغم ان الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي شجبا هذا الاستفتاء إلا أنهما ساهما لعدة عقود في تصعيد وتيرة الهوية لدى الاكراد، ففي عام 1967 اصدر الفرنسي رينيه موريس كتابا بعنوان كردستان او الموت بعد ان عاش فترة من الزمن في كردستان، وحاول فيه شحذ الوطنية الكردية واقامة فواصل بينها وبين الوطنية العراقية الشاملة والتاريخية، وبعد حرب اكتوبر عام 1973لعب كيسنجر باعترافه دورا في تحريض الاكراد ضد نظام بغداد كي يضغط على النظام ليوافق على ما سمي في تلك الايام فك الاشتباك ، وغالبا ما توصف سياسة كيسنجر في العراق بالاحتواء المزدوج سواء كان طرفا هذا الاحتواء العراق وايران او العراق والاكراد .

وهناك من وصفوا هذه الاستراتيجية وصفا طريفا حين اطلقوا عليها العزف على آلة الاوكورديون واعتصار الخاصرتين معا، والنقطة التي يجب ألا تغيب عن هذه المقاربة للدراما الكردية هي محاولة البرزاني وريث ابيه الملا مصطفى اختطاف الحلم الكردي لاسباب لا علاقة لها بالاكراد بل بالعائلة ذاتها وبخلافاتها التقليدية مع عائلة الطالباني، ويوضح هذا ما قاله أخيرا وفيق السامرائي المستشار الاسبق لصدام حسين والذي كان مكلفا بالتفاوض مع مسعود البرزاني ، قال ان البرزاني وضع مصلحته العائلية فوق مصالح الاكراد جميعا، وطلب منه ان يبلغ صدام حسين بأن العدو الحقيقي للبرزاني هو جلال الطالباني الذي اصبح فيما بعد رئيسا لجمهورية العراق وتزامن رحيله هذا الاسبوع بشكل دراماتيكي مع الاستفتاء، واضاف ايضا انه يقبل بخمسة بالمائة فقط من مطالب الاكراد مقابل ان يظفر بالكعكة كلها !!

ولا يغيب عنا ايضا ما صدر من موسوعات وابحاث حول الاقليات في العالم ومنه الشرق الأوسط فور انتهاء الحرب الباردة ومنها موسوعة اقليات في خطر من تأليف تيد روبرت جار وكأن القطب الذي كسب الحرب الباردة كان يفكر بملء الفراغ بالشرق الاوسط هذه المرة بحروب الهويات مثلما فكر بذلك بعد غروب الامبراطورية البريطانية وما سمي يومئذ نظرية ايزنهاور في ملء الفراغ في الشرق الأوسط .

وهناك قرائن تاريخية وحيثيات ووقائع يجزم حاصل جمعها ان البرزاني لا يجسد الحلم الكردي بقدر ما يسعى الى تحقيق احلامه، اما ما يسمى عقب آخيل او نقطة الضعف ان لم يكن المقتل لهذا المشروع الذي يصر البرزاني على تحويله الى امر واقع فهو ان الدولة التي يحلم باعلانها تولد في تابوت وليست قابلة للحياة بكل المقاييس فهي محاصرة من كل الجهات . كما انها ملغومة ديموغرافيا بأقليات عرقية اخرى كالتركمان والاشوريين وغيرهم خصوصا في مدينة كركوك .

النقطة الاخرى الجديرة بالتأمل في هذه المقاربة هي موقف إسرائيل المتحمس لاستفتاء كردستان فالامر تجاوز الموقف الرمزي كرفع الاعلام والشعارات والتظاهر المؤيد للانفصال الى الوعد بالاسناد والحماية، هذا بالرغم من ان معجم الفوبيات او العقد النفسية في العسكرية الاسرائيلية يتضمن مصطلحا هو صلاح الدين كومبلكس ، اشارة الى محرر القدس ذي الاصل الكردي وكيف نصدق ان دولة تسعى لأن تكون دينية خالصة وبلا شوائب غير يهودية ستكون حليفا استراتيجيا لدولة اسلامية !

ان ما غاب عن معظم الذين عبروا عن دهشتهم من موقف تل ابيب مما جرى في اربيل هو انها تسعى الى احياء خط النفط الذي كان يحمل اسم كركوك ـ حيفا ، فالسبب اقتصادي وله ابعاد سياسية منها ان تقسيم العراق هو رهان اسرائيلي قديم، لكن المعلن دبلوماسيا وعبر الميديا المؤدلجة هو الانحياز لعدالة قضية !

لقد تعرض الاكراد على امتداد تاريخهم لكوارث وعانوا الكثير، لكن أسوأ ما يمكن ان يحدث لهم هو اختطاف الدراما الكردية والاتجار بها من امثال مسعود البرزاني !!!-

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف