محمد الرميحى
ضربات مطرقة على رأس دبوس!
على مدى ثلاثة اعداد متتالية التى صدرت من المجلة الاكثر احتراما فى الولايات المتحدة (الفورن افيرز) منذ بداية هذا العام، وهى مجلة فصلية تخاطب النخب السياسية والاقتصادية فى الولايات المتحدة والعالم، المحور الاساسى فى تلك الاعداد الثلاثة هو شخصية الرئيس الجديد السيد دونالد ترامب، وان كانت النخب الامريكية تهتم بمتابعة وتشريح السياسة الامريكية لسبب داخلى وخارجي، فإن العالم كله يهتم ايضا بالمتابعة، لما تتخذه الادارة من سياسات، لان ما يتخذ فى واشنطن يُسمع فى اماكن اخرى كثيرة، و كثير منه يسمع فى الشرق الاوسط، حيث تتراكم المشكلات السياسية و الصراعية والتى نحن العرب جزء منها. السؤال الاهم الذى يطرح فى اكثر من مكان، هو: كيف تُفهم سياسة السيد ترامب الداخلية والخارجية، وهل ثمة تبلور لسياسة معينة تكون (متوقعة) ترسم عليها الدول الاخرى ما تتبناه من سياسات؟ ام انها سياسة تهجر الايديولولجيا و تفارق التوقع، وتعتمد الصفقات و المفاجآت؟
بعد الحرب العالمية الثانية قرر الساسة الغربيون بشكل عام، ان (هذا الجنون الصراعى يجب ان يتوقف) اى خوض الحروب على مستوى العالم، التى تأكل الاخضر واليابس، خاصة بعد تطورهائل فى الاسلحة الحديثة وخاصة منها الذرية والهيدروجينية . اصبح هناك اتفاق غير مكتوب بين القوى الكبرى ان تُمنع بكل السبل والوسائل الحروب البينية الكبري، ازمتان قربتا كسر ذلك الاتفاق، ازمة الصواريخ الكوبية عام 1961، التى أوصلت العالم لحبس انفاسه، ثم تم التراجع من الجانبين خوفا من نزاع يدمر العالم، واليوم الازمة الكورية الشمالية التى تضع العالم من جديد على حافة الهاوية. الا ان الاتفاق الدولى على منع ( افناء البشرية) لم يمنع ( تصدير الحروب بالوكالة) فنشأت منذ الحرب العظمى الثانية مجموعة من الحروب والصراعات كان مسرحها العالم الثالث، او الدول والمناطق المختلفة فى العالم فى آسيا وافريقيا وحتى فى بعض مناطق اوروبا، الا ان كل تلك الصراعات، كان يجرى محاصرتها او تحتويها القوى الاكبر منها، والتى كانت تحارب نيابة عنها، الا ان الضحايا، وقد اصبحوا بالملايين هم فى الغالب من ابناء العالم الثالث، خاصة ابان ما عرف بالحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكى و المعسكر الرأسمالي. بعد انهيار الاتحاد السوفيتى ظن البعض ان (الليبرالية الغربية) قد انتصرت وان هناك قيما سوف تسود منها قيم الاقتصاد الحر وحرية التجارة واطلاق قوى السوق، وسيادة الامن والعدالة فى معظم مناطق العالم، وان كانت نسبية. انتخاب السيد دونالد ترامب والافكار التى جاءت معه حيرت العالم الذى كان يسير فى طريق وبدا انه يجبر ان يسير فى طريق آخر، ولكن هذا الطريق الآخر ليست له معالم واضحة. السيد ترامب رفع شعار (امريكا اولا) وهذا يعنى التوجه الى الانعزالية من اكبر دولة لها قدرة القيادة فى المعسكر الغربى ان صح التعبير، ثم ما لبث ان تحولت فكرة ( العزلة) الى منع الهجرة او حتى منع السفر لعدد من مواطنى الدول الى الولايات المتحدة، ليس بسبب ارتكاب أعمال يجرمون عليها، ولكن بسبب انتمائهم لبلدان معينة، حتى العلاقات القديمة مع الشركاء التاريخيين بدأت تتأرجح فهى مثلا مرت وتمر بازمات بين الولايات المتحدة وبين اعضاء حلف الاطلسي، مع فرنسا و بريطانيا وألمانيا، واضح ان العلاقات مع تلك الدول تتصف بانها (باردة او شبه مأزومة). اما الاكثر اهمية وغير الظاهر على السطح فهو انسحاب الولايات المتحدة من مشروعات دولية لها تأثير على العالم اجمع، كمثل معاهدة باريس للمناخ التى إنسحبت منها الادارة الامريكية علنا منذ اشهر، مما سبب قلقا بالغا لدى المهتمين بالتغيرات المناخية القاتمة على البشرية، من جهة اخرى فإن التهديد اللفظى غير المسبوق فى (محو الدول) كما قيل تجاه كوريا الشمالية، والغموض الذى يغلف سياسة واشطن اليوم فى كل من الملفات العراقية و السورية والايرانية، وحتى الازمة التى تسمى (ازمة الخليج) بين دولة قطر والدول الاربع الاخري، فليس هناك موقف واضح من الادراة حول تلك الملفات الاقليمية الخطرة، فقط الرأى ونقيضه القادم من اكثر من زاوية فى الادارة، بل تركت بعض القضايا الكبرى للتصرف بمعرفة روسيا الاتحادية او ايران. الموقف من ايران ايضا غير واضح المعالم، ففى الوقت الذى يسمع العالم تهديدات لفظية عالية الصوت، لا يجد ان هناك خطوات على الارض، بل ان الصوت العالى يدفع دول مثل كوريا الشمالية وايران الى التشدد، واطلاق الصواريخ دون فعل مضاد لها على الارض، والحجة ان هناك مراجعة للسياسات لم يُنته منها بعد.
مجمل المحصلة ان هناك ارتباكا غير مسبوق امام عدم وضوح سياسة دولة كبري، هى الولايات المتحدة، فى عدد من الملفات الحاسمة، كما ان هناك تذبذبا صعب الفهم ليس على الاعداء، بل وايضا على الاصدقاء. البعض يقول ان ذلك (الغموض) متعمد! ولكن يبدو ان ذلك تبرير اكثر منه تفسير، فالدوائر المهتمة بسياسات الولايات المتحدة فى منطقتنا كثير منها محتار فى تفسير الافكار القادمة من واشنطن، لانها متغيرة و لا يمكن التنبؤ بها على وجه اليقين. بعض الدراسات ( كما حدث فى عدد الفورن افيرز الاخير سبتمبر\اكتوبر 2017) تذهب الى تفسير الامر انه ناتج مما سمته المجلة (البلوترقراطية) وتعنى السياسة الشعبوية لحكم الاثرياء، وهى محاولة لتفسير مسار السياسة فى الادارة الامريكية حتى الان، اى ان الطبقة المالية (او ممثليها) عندما يحكمون يسيرون امور الدولة والمجتمع على طريقة (الصفقات) فالصفقة الرابحة هى التى تأتى بالمال، و تراكم الثروة والسلطة، واما الخاسرة فتترك فجأة بصرف النظر عن الخسائر، حتى فى منتصف عملية التفاوض، وهذا ما يقلق النخب المفكرة فى الولايات المتحدة اليوم، وايضا يقلق آخرين يعلنون قلقهم او يضمرونه فى العالم الثالث وفى منطقتنا المبتلاة بعدد من الصراعات المنهكة، والتى بدأت تؤدى الى تفكك الدول (السودان/ العراق/ سوريا) او التهديد بتفكك دول اخرى بسبب استمرار الصراعات المهلكة فيها. من هنا فإن الدور العربى الاقليمى مطلوب اليوم قبل اى وقت آخر، من اجل تجنيب المنطقة ويلات الانزلاق الى قاع الصراعات، وايضا الحديث الجماعى ان امكن، من زاوية المصلحة المشتركة للعرب، مع الادارة الامريكية، ان مثل تلك السياسات المرسلة تضر باستقرار وامن المنطقة، وفى النهاية تضر باستقرار العالم. فالسياسة الامريكية الحالية ، هى بمثابة مطرقة ثقيلة على رأس دبوس !.