المصريون
جمال سلطان
لماذا تقدمت قطر وتأخرت مصر في تصويت اليونسكو ؟
مرة أخرى يوشك العرب أن يضيعوا فرصتهم في تولي رئاسة "اليونسكو" ، المؤسسة الثقافية الدولية الأكثر أهمية على الإطلاق ، وذلك بعد أن أصرت دولتان عربيتان على الدفع بمرشح لكل منهما ، مما كان خصما من رصيد المرشح الآخر بكل تأكيد ، خاصة في الكتل الدولية التي تتعاطف مع العرب تقليديا وقضاياهم العادلة ، وقد أجريت عملية التصويت الأولى أول أمس فحصل مرشح قطر الدكتور حمد الكواري على 19 صوتا ، كما حصلت مرشحة مصر الدكتورة مشيرة خطاب على 11 صوت ، ومرشحة فرنسا على 13 صوت ، وهذا يعني أن مجموع ما حصل عليه "العرب" ، مرشحا مصر وقطر هو 30 صوتا ، وهي كافية لحسم المقعد لو كانت لمرشح واحد ، لأن هذا الرقم يعني النصف زائد واحد من مجموع (58) دولة لها حق التصويت ، ولكن تمزق الإرادات السياسية ، حرم الاثنين من الوصول إلى اليونسكو ، وغالبا لن تكون الجولات التالية لصالح أي منهما إلا بمعجزة ، لأن المرشحة الفرنسية ستحصل على دعم من يستشعر الخسارة منهما ، كما أن الأصوات الأخرى التي توزعت بين الصين ودول أخرى ستؤول غالبا إلى المرشحة الفرنسية هروبا من الحرج في الانقسام العربي .
الأمر تكرر من قبل عندما ترشح كل من الشاعر السعودي الراحل الكبير غازي القصيبي أمام المرشح المصري الدكتور إسماعيل سراج الدين ، فضاعت الفرصة من الاثنين ، غير أن الأجواء الآن أكثر احتقانا نظرا للخلاف السياسي العنيف بين القاهرة والدوحة ، وهو خلاف ممتد للخليج كله تقريبا ، ولذلك من الصعب تصور أن يتنازل الكواري أو مشيرة ، أحدهما للآخر ، والفرصة الأولى الآن للمرشحة الفرنسية ، يليها ـ منطقيا ـ المرشح القطري لأنه حصل على تسعة عشر صوتا في الجولة الأولى وهي أعلى الأصوات .
مصر أدارت المعركة بغشومية سياسية وديبلوماسية ، كان هناك ابتهاج زائد بتنازل العراق لمصر وهو تنازل لا قيمة له لأن العراق حاليا لا يملك أي ثقل لا سياسي ولا ثقافي على المستوى العالمي ، كما أن الديبلوماسية المصرية استخفت كثيرا بقدرات المرشح القطري ، وما زال الإعلام المصري حتى الآن يحكي خرافات عن قطر ومرشحها ، وأنها اشترت الأصوات بأموالها ، ولو كانت المسألة أموالا لضخت "أبوظبي" عدة مليارات في هذه الموقعة نكاية في جارتها اللدود قطر ، ولكن الأمر يتعلق بالسجل الشخصي للمرشح القطري وأيضا لصورة بلاده في دنيا الثقافة والتعليم الآن .
المرشح القطري يملك سجلا قويا على المستوى الشخصي ، وهو ـ بالمناسبة ـ مصري الثقافة والهوى ، وكانت له صداقات قوية مع رموز ثقافية مصرية كبيرة على مدار أربعين عاما تقريبا ، مثل رجاء النقاش ولويس عوض وجلال كشك وجيلهم وأجيال تلتهم ، وهو "درعمي" خريج كلية دار العلوم جامعة القاهرة ، وبالمناسبة فزوجته مصرية ، ثم حصل على الماجستير من السوربون في فرنسا ثم الدكتوراة من جامعة (ستوني بروك) في نيويورك ، وتولى وزارة الثقافة في بلاده ثم عمل مندوبا لها في الأمم المتحدة وكان نائبا لرئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة ، كما عمل في اليونسكو أيضا سنوات ، كما كان سفيرا لبلاده في عدد كبير من الدول العربية والأوربية والأمريكية وفي أمريكا الجنوبية مما ساعده على بناء شبكة علاقات عامة قوية ، وهو يتحدث بعدد من اللغات العالمية ، فهو ليس شخصا هامشيا أو مغمورا كما يحاول أن يصوره قطاع من الإعلام المصري الآن ، هذا بالإضافة إلى أن قطر نفسها في المجال الثقافي والتعليمي تحظى بمكانة جيدة في السنوات الأخيرة ، فقد صنفت الأولى عربيا في جودة التعليم ، وكذلك صنفت الأولى عربيا في التنمية الشاملة وفي رعاية الطفولة ، كما أن ربحها لفرصة تنظيم كأس العالم 2022 منحها حضورا دوليا أيضا ، وهذا كله كان يستدعي أن تأخذ مصر تحدي المرشح القطري على محمل الجد وليس بهذا القدر من الاستخفاف .
في المقابل لم تحسن مصر اختيار مرشحها ، مع كامل الاحترام للسيدة مشيرة خطاب وتاريخها ، فلم يكن لها صلة قوية بعالم الثقافة والتعليم والتنمية ، ووضح أنها مرشحة "الدولة العميقة" المصرية وليست مرشحة "الثقافة" المصرية أو العربية أو حتى الأفريقية ، إضافة إلى أنها لم تبذل أي جهد يذكر لتحسين صورة مصر المهترئة الآن عالميا في مجال حقوق الإنسان ، وخاصة ما يتعلق بقطاع الثقافة ، فهناك مكتبات يتم غلقها بقرارات سياسية ومثقفون تتم مطاردتهم وسجنهم ومجتمع مدني يتم سحقه بلا رحمة وبلا استجابة للملاحظات الدولية بشأنه ، وقطاع واسع منه متصل بالثقافة ، وهذا كله سجل لا يشجع العالم على اختيار مرشح مصر .
غرر بالحكومة المصرية نفر من المثقفين "الدولجية" وصوروا لها أن "افريقيا" في الجيب ، وأن العالم كله يهتف باسم مصر وحضارتها وأن المنطقة العربية كلها ضد قطر وستصوت للمرشحة المصرية ، وعاشوا في وهم كبير ، لم يفيقوا منه إلا بعد ظهور نتائج الجولة الأولى من التصويت ، وها نحن ننتظر نتائج الجولات الأخرى ، لعل وعسى .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف