الأهرام
نوال السعداوى
تعريف جديد للأدب والكتابة
منذ الطفولة أنفر من بشرة الوجه المزخرفة بألوان غير طبيعية، والمساحيق التى تطمس علامات الشخصية، وتخفى خطوط التجربة والعمرالحقيقي، تؤذى عينى صبغات الشعر بألوانها الصناعية، من الأصفر الفاقع، تدمنه زوجات الطبقة العليا وفوق الوسطي، لتتحول السوداء منهن الى شقراء، أو اللون الأسود الفاحم، يدمنه كبار الرجال من الطبقات الحاكمة، لإخفاء الشيب والشيخوخة، فيعود العجوز منهم إلى فتوة الشباب، يرهب المحكومين ويجذب النساء.

يطغى الزخرف على الجوهر فى الثقافة والأدب فى العالم وبلادنا، بمثل ما تطغى القوة على الحق والعدل، وتطغى السوق والتجارة على العلم والفن، ويطغى النص الثابت على المصلحة المتغيرة، ويطغى المالك على الأجير والرجل على المرأة, إنه النظام الهرمى الموروث منذ نشوء العبودية والطغيان، لا تتسع قمته الضيقة المدببة إلا لجلوس فرد واحد، صاحب السلطة المطلقة فى العالم والدولة والعائلة.

دارت هذه الأفكار فى رأسى وأنا أشهد ندوة أدبية فى الرابع من هذا الشهر، أكتوبر، نظمها المركزالمصرى للترجمة برئاسة الدكتورأنور مغيث، وشارك فيها الدكاترة خيرى دومة وأمنية أمين ومنى طلبة وأحمد بلبولة، مع سها السباعي، أستاذة الترجمة من الإنجليزية الى العربية، وقد ترجمت كتاب الدكتور إرنست إيمنيونو والدكتورة ومورين إيك، الذى دار حوله النقاش فى الندوة.

قاعة طه حسين امتلأت بجمهور مميز، أغلبهم من الشباب والشابات، شاركوا فى الحوار، وطرجوا الأسئلة التى تنتمى لمستقبل الأدب والفكر وبناء العقل فى بلادنا . إنها المرة الأولى فى تاريخ الحكومات المصرية على مدى العهود، أن تنظم ندوة لمناقشة أعمال كاتبة مصرية متمردة (مثلي) تم طمس أعمالها لأكثر من نصف قرن، وقد برزت الكفاءة الأدبية والفكرية للمشاركات والمشاركين، من أساتذة الجامعات ونقاد الأدب، وقراء وقارئات، مما يدعو للتفاؤل، وإدراك أن بلادنا بها عقول مبدعة غير قليلة.

طرح الدكتور أنور مغيث سؤالا عن الهوة بين الثقافة والتعليم: كيف يصبح المهندس أوالوزير أو الطبيب أو المحامى مثقفا؟وعبر طالب بالمدرسة الثانوية عن حيرته إزاء ما يتلقاه من تعليم سطحى متناقض، يؤدى إلى التجهيل والتخويف أكثر مما يؤدى إلى المعرفة والشجاعة، وتساءلت طالبة جامعية عن دورالأدب والكتابة فى التغييرالثقافى والفلسفى والاجتماعى والسياسي، وهل يمكن فصل الكاتب أوالكاتبة عن القراء والقارئات؟

قبل تقديم المتحدثين والمتحدثات تكلم الدكتور خيرى دومة عن أهمية تناول هذا الموضوع الخاص بالندوة، وهو جوهر الأدب، وقال: «أصبحنا فى حاجة إلى تعريف جديد للأدب»، وطرح هذا السؤال: ما هو الأدب؟ أيكون الأدب ألوانا من الصدام مع الواقع؟ وإن عجز الأدب عن الصدام بالواقع وتغييره وتغيير الكاتب والقارئ معا، فهل يكون أدبا؟ هل يكون للأدب معنى بمعزل عن همومنا فى حياتنا الواقعية وهزائمنا ومخاوفنا وآلامنا وأحلامنا فى كسر قيودنا؟

فتح الحوار بين المشاركين والمشاركات آفاقا جديدة لمعنى الأدب وجوهره، كيف يخرج الأدب من سجن المدارس النقدية الأكاديمية التقليدية، كيف يصبح النقد الأدبى إبداعا فى حد ذاته، يضيف للنص الأدبى ويزيد من تأثيره وقدرته على التغيير؟ الجمال ليس بالمساحيق والألوان وشد البشرة، طغت علينا منذ قرون فكرة التجميل الصناعي، وغاب عنا جوهر الأشياء، الآدب ليس زخارف وألفاظ، بل حوار خلاق بين النص والقارئ أو القارئة، حوار يضفى على النص معانى جديدة، يشارك فيها أطراف متعددة: الكاتبة / الكاتب، والقارئ/ القارئة، والناقد/ الناقدة. ليس للأدب أو الكتابة معنى دون وجود قارئة أو قارئ، قادرعلى سبر أغوار اللغة والنص الأدبي، والكشف عن جوهره، واجتياز الفواصل المفروضة على العقل البشرى منذ تأثيم المعرفة.

الأدب لا يكون بغير العلم والمعرفة، والمعرفة لا تكون بغير إلغاء الفاصل بين الزمان والمكان والسماء والإرض والجسد والروح، والفن والعلم، والملاك والشيطان، والمرأة والرجل، والحاكم والمحكوم، هذه الثنائيات الموروثة تشطرالعقل وتضعفه، لكن الأدب المبدع قادر على أن يعيد للعقل وحدته ويرد للجسد الروح. الكتابة الأدبية تكسر الحواجز، تتمرد على الموروث والمألوف، لا ينفصل الإبداع عن التمرد، يحتاج الأدب الى تعريف جديد، وجدل شجاع لإيهاب السلطات والعقاب، لم يخرج الأدب الأوروبى من سجن الكهنة والكنيسة إلا بعد أن كسر المفكرون الشجعان القيود المفروضة ، قتل بعضهم وسجن بعضهم، لكن المعرفة انتصرت على الجهل، وهذا مستقبل الأدب.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف