الأهرام
عبد المنعم سعيد
قراءة أخرى للتعداد القومى
واحدة من علامات التقدم أن نعرف معلومات أكثر عن الدولة، وكلما كانت المعلومات أكثر تدقيقا وتفصيلا زمنا ومكانا، فإن التحليل يكون أكثر دقة، والقرارات أكثر صوابا. التعداد العشرى لمصر الذى أجراه الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء كان الأكثر شمولا واتساعا؛ ومن كثرة الشمول والاتساع فإن الرئيس عبد الفتاح السيسى دعا إلى تجمع علمى من الأكاديميين والخبراء لقراءة التعداد واستنتاج ما فيه من أمور على الدولة التعامل معها. حتى يحدث ذلك فإن الاجتهاد واجب ليس فقط فى قراءة آلاف الصفحات أو حتى مئات الألوف من المادة الأولية وإنما كبداية هى فى منهج قراءة المعلومات وهذه فيها كثير من القيم المختلفة فى التقدير من شخص إلى اخر، ومن مدرسة فى السياسة إلى مدرسة أخري.

وعلى سبيل المثال فإن الشائع لدينا أن نبحث فى المعلومات عن مواطن الخلل فنعثر على المعلومة التى تقول إن لدينا 18 مليونا لا يعرفون القراءة والكتابة؛ كماأن لدينا بالإضافة إلى ذلك عشرة ملايين إضافية ممن يتسربون من التعليم. مثل هذه المعلومات تدفعنا دفعا إلى البحث عن السبل التى تجعلنا نمحو الأمية، ونسد الثغرات التى تدفع الطلاب إلى الخروج من العملية التعليمية كلها. هذه مهمة جرينا وراءها طوال العقود الماضية مع القليل من النجاح ربما لأننا لم نصل إلى الطريقة الملائمة بعد لكى نعلم الأميين ونمنع المتسربين من التسرب؛ وربما لأننا لم نسأل أنفسنا عما إذا كان التعليم ليس مفيدا بدرجة كبيرة تدفع الناس إلى البحث عنه والإصرار عليه والتمسك به عندما يدخلون الفصول. هنا يبرز منهج آخر هو أنه لإصلاح الأوطان فإن القضية الملحة هى التأكد من أن الوطن استفاد من علم المتعلم، وأن المتعلم والذى يعرف القراءة والكتابة والحساب والكمبيوتر وربما وصل إلى درجة الدكتوراه يحقق بالفعل أعلى درجات الكفاءة والعائد لنفسه وللوطن. فإذا كان لدينا أربعون مليونا، وربما أكثر، من المتعلمين حقا، فإن ذلك بالتأكيد يمثل ثروة بشرية هائلة؛ ومع ذلك فإننا نعرف أن ضعف مستويات العمالة فى مصر يؤدى إلى ضعف إنتاجية العمل، وبالمثل فإن الحاصلين على الدكتوراه ليسوا بالضرورة أساتذة بنفس الدرجة المتعارف عليها فى الدول المتقدمة.

الرقم الذى نبحث عنه فى العادة بعد نسبة التعليم يكون متعلقا بالفقر؛ وإذا علمنا أن نسبة الفقراء فى مصر تقترب من 30% فإن الجهد كله يكون فى تعريف الفقير، والبحث عن الطرق التى تساعد الفقراء على تحمل فقرهم فيكون الدعم والإجراءات الأخرى التى نعرفها والتى على الأرجح أنها لا تخرج الفقير من فقره. المنهج الآخر هو أن المعلومة السابقة تعنى أن 70% من المصريين يتراوحون بين درجات مختلفة من الستر والغني؛ ولكن سترهم وغناهم لا يعنى بالضرورة أن مصر مستورة وغنية لأن ما لديهم جماعة لا يأخذها إلى هذه الدرجة. المستورون والأغنياء، من الطبقة الوسطى أو من الرأسماليين؛ أو باختصار هؤلاء الذين يشكلون القدر الأعظم من الادخار القومي، أو المقدرة على الاستثمار، ويتصدرون تحويلات العاملين المصريين فى الخارج، لا يوجد لديهم ما يكفى من الدوافع والحوافز والطرق الاستثمارية الممهدة والترقى والعلو حسب الكفاءة لكى تدور عجلة التنمية بمعدلات عالية للنمو تنقل مصر من مكانتها الراهنة إلى مكانة أكثر تقدما.

التساؤلات كثيرا لا تتوقف عن أسباب تقدم الصين والهند رغم كثرة عدد السكان بالمليارات فى كلتيهما، ورغم أن الأولى شيوعية ولو نظريا، والثانية رأسمالية ولو نظريا أيضا. وفى عام 2002 زرت الصين فى بعثة صحفية للأهرام وفيها شاهدنا مدينة شنغهاى ومنطقة النمو العظمى فى الجنوب الشرقى للدولة. وللمفاجأة فإن هذه المناطق كانت ممنوعة الدخول على بقية الصينيين اللهم إلا بتصريح خاص كما لو كان الصينى سوف يدخل دولة أجنبية يتحدد فيها العمل الذى سوف يقوم به، والشركة التى سوف يعمل فيها. وعندما سألنا كيف يكون الصينى غريبا فى بلده، كانت الإجابة أنه لا يمكن للمناطق المتقدمة أن تستمر فى تقدمها بينما هى مثقلة بالبطالة والفقر وسلوكياتهما التى سوف تأكل نتائج التقدم والتنمية أولا بأول. الآن تقلصت المناطق الفقيرة فى الصين، لأن عملية اتوأمةب جرت بين المناطق الغنية والأخرى الفقيرة تنقل لها تجاربها وتعليمها واستثماراتها وكيف انتقلت من حالة أدنى إلى حالة أرقى وأعلي.

بعض من ذلك جرى فى الهند أيضا، ولكن بطريقة مختلفة، فى الصين ركزت على منطقة الجنوب الشرقى المتأثرة بنهضة هونج كونج، ثم تحركت خطوة بعد أخرى إلى الداخل الصيني؛ ولكن فى الهند فإن بداية التنمية كانت فى ولايتين فقط من 29 ولاية هندية، ومنها بدأت النقلة الكبرى إلى الولايات الأخري؛ ومنذ عام 1985 عندما بدأت النهضة الهندية فى عهد راجيف غاندى تخرج 431 مليون هندى من الفقر. خلاصة التجربتين الهندية والصينية هى أنه لا يمكن تحقيق التقدم ما لم يتم الاستثمار فى التقدم والنضج والموارد حيث المتعلمون والمستورون والمتقدمون وأصحاب المهارات برفع كفاءة قدراتهم فى تحقيق التراكم الرأسمالى فى الدولة الذى لا يسمح فقط بالحماية الاجتماعية للأقل حالا، وإنما أيضا فى الاستثمار الذى يخرجهم من أحوالهم الصعبة.

الأرقام السابقة على التعداد الجديد تقول إن مصر أيضا ليست درجة واحدة من التقدم، ففيها المحافظات المتقدمة، إذا ما قيس التقدم بالدخل والتعليم والصحة. لمدن قناة السويس الثلاث بورسعيد والاسماعيلية والسويس والمنصورة ودمياط والقاهرة والإسكندرية، وهناك المحافظات الفقيرة فى صعيد مصر، وبين هذا وذاك توجد بقية المحافظات. التعداد القومى سوف يعطينا صورة أوضح للبنية الاقتصادية والاجتماعية المصرية، وعن عناصر القوة والضعف فى البنية الهيكلية للدولة. ما سوف نفعله بعد ذلك ينبغى أولا أن يدعم عناصر القوة ويعطيها القدرة على الانطلاق وتوليد الثروات؛ وثانيا بالتوأمة والتدريب ونقل الخبرات يكون تخريج الفقراء من الفقر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف