الأهرام
د. فوزى فهمى
الأمركة ضد التنوع!
صحيح أن الإنسان لا يخشى شيئًا قدر خشيته الإكراه، وتغريب الآخر له كاختلاف نهائى إلى حد الإنكار والإلغاء، وصحيح أيضًا أن جوهر الهيمنة يعنى تجريد الإنسان من أهليته للسيادة على ذاته ومقدراته وتحقيق استقلاله، والصحيح كذلك أن الأمركة منحت نفسها حق الهيمنة على العالم وقيادته وإخضاعه، بوصفها إمبراطورية السيطرة الأحادية المطلقة قوة وإمكانية، ولا شك أن هذه المغايرة مقرونة بالتضاد الناجم عن نمط الأمركة بوصفها إمبراطورية تريد أن تستوعب الكل لصالح الأقلية كمًا ونوعًا؛، لذا فهى لا تسمح أن يتمكن غيرها من امتلاك ما يكسر عنف أحادية تفوقها واحتكارها، وبذلك تصبح بقية الدول محض وكالات إقليمية لمركزية سلطانها الأحادى الذى تحركه طغمة مالية فاشية معولمة، تتبدى فى صيغة «عولمة لنيوليبرالية الغاب»، التى لا توجد إلا حين تغيب الدولة نتيجة فقدانها محيطها الطبيعي، بإحكام سيطرة القلة الثرية المعولمة على المجتمع بوصفها دكتاتورية مالية تمارس المواجهة ضد كل محاولات تعطيل امتدادها، سعيًا إلى إنتاج برنامج اقتصادى اجتماعى يستهدف تعميق التفاوت الطبقى داخل كل بلد، بدعوى النهوض بالاقتصاد وتحريره، وفتح الأسواق وتعديل النظام الضريبى وذلك ما يعنى أنه معتقد يستند إلى مناوأة السياسة القومية، كى يصل بها إلى قطيعة كارثية مع انتظامها السابق فى ظل دولتها الوطنية، كما يدفع دول الجنوب إلى الخضوع لهيمنة الشركات الأجنبية والوكلاء المحليين، تغييبًا للدولة الوطنية ودورها، وهو صدع يداهم الدولة القومية يماثل صدع «الفوضى الخلاقة» التى أحدثتها الأمركة فى بلدان الشرق الأوسط، وفقًا لعقيدتها فى ممارسة «القولبة» التى تنتج تصنيعًا وتسويقًا لأنماط المجتمعات التى تحقق هيمنتها وامتداداتها، وسحق الدولة الوطنية وخصوصيتها، وبذلك تمارس الأمركة أخطر أحلام السيطرة بإلغائها التنوع الثقافي، حيث تحول البلدان إلى محض مساحات من الأسواق والثروات الطبيعية، لذا فإنه حفاظًا على خضوع المجتمعات لقولبة الأمركة وهيمنتها، نجد أن الولايات المتحدة وإسرائيل هما الدولتان الوحيدتان اللتان اعترضتا على موافقة منظمة اليونسكو - عام 2005 - على اتفاقية «حماية وتعزيز أشكال التنوع الثقافي» التى وافقت عليها 184 دولة.

لا شك أن هذه الهجمة التنميطية تستهدف سلب المجتمعات ماهيتها، حيث يصبح مواطنوها محض أرقام فى مصانع الإنتاج وأسواق الاستهلاك، فى حين أن التنوع الثقافى لا يزدهر إلا فى بيئة متحررة، تكفل حرية الرأى والاختلاف والتعبير، انطلاقًا من أنه بين الماهية المطلقة للإنسان والتنوعات الثقافية للشعوب يتبدى مفهوم الهوية الاختلافية الذى يتيح للثقافة النوعية فرصة أن تطرح خصوصيتها على أساس من الكل الذى تنتمى إليه وهو الإنسانية، عندئذ تظهر الهوية الموصوفة بالديمقراطية، التى تغتنى عن طريق الاعتراف بهوية الآخر، لا أن تعمل على إلغائها، حيث ينص الإعلان العالمى لليونسكو على «أن التنوع الثقافى يوسع نطاق الخيارات المتاحة لكل فرد، فهو أحد مصادر التنمية، ليس بمعنى النمو الاقتصادى فحسب، لكن أيضًا بوصفه وسيلة لبلوغ حياة فكرية وعاطفية وأخلاقية وروحية مرضية»، كما ينص كذلك على أن «الدفاع عن التنوع الثقافى واجب أخلاقى لا ينفصل عن احترام كرامة الإنسان، والالتزام باحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية»، وفى حين تدعى الأمركة أنها الحامل الوحيد للمبدأ الإنساني، فإذ بها وفقًا لمخطط هيمنتها تغزو وتخترق الآخر لتجرده من أهليته واستقلاله وحقوقه الإنسانية، ثم لا تكف عن ضخ الإعلان زيفًا عن حمايتها لحقوق الإنسان؛ بل تعاقب الآخر عن أمور تخص مسار هيمنتها؛ لكن تحت دعوى خرقه تلك الحقوق الإنسانية، فتشهر حرمانه من المعونة المالية التى تمنحها لذلك البلد الآخر، لتجعل من المال وحده مالكًا لأعلى ثمرات التقدم الإنساني، وأيضًا تستهدف بإشهار تلك العلاقة التعارضية مع ذلك الآخر قمعه لاستتباع هيمنتها، وهو ما يخالف الإعلان العالمى لليونسكو الذى ينص على أنه اإلى جانب كفالة التداول الحر للأفكار، ينبغى الحرص على تمكين كل الثقافات من التعبير عن نفسها والتعريف بها، وذلك أن حرية التعبير، وإتاحة الفرصة لجميع الثقافات فى أن تكون حاضرة فى وسائل التعبير والنشر، هى كلها ضمانات للتنوع الثقافي«، لكن الأمركة بإمبراطوريتها فرضت الولاء القطعى لهيمنتها المطلقة على العالم، الذى أصبح يشكل تخومًا من التنميطات ذات الممارسات النسخية المتماثلة، وراحت بدكتاتوريتها المالية تمارس تغريب الآخر كليًا، إما لإلغائه وإما للسيطرة عليه، تساندها مؤسسات دولية محددة، هى «صندوق النقد الدولي»، الذى يشرف على إدارة النظام النقدى العالمي، ويضع سياساته وقواعده الأساسية، بالتنسيق الكامل مع «البنك الدولي» فى مختلف العلاقات التبادلية بين الأسواق العالمية، سواء أكانت برامج الخصخصة، أم القروض، أم التكييف الهيكلي، أم الإشراف على فتح أسواق البلدان النامية أمام حركة بضائع بلدان المراكز الصناعية ورءوس أموالها، أما المؤسسة الثالثة فهى «منظمة التجارة العالمية»، بوصفها أخطر مؤسسات العولمة الاقتصادية؛ إذ تشرف على إدارة النظام التجاري، وتحريره، وتأمين حرية السوق عبر شركات متعددة الجنسيات، وهو ما أصبحت معه السياسة التجارية للدول المستقلة شأنًا دوليًا معولمًا، وليس من أعمال السادة الوطنية؛

لقد تعددت وتنوعت الدراسات التى تصدت لهيمنة إمبراطورية الأمركة، وممارستها قولبة العالم وتنميطه، وأحدى هذه الدراسات كانت لعالم الاجتماع، وأستاذ العلوم السياسية فى جامعة باريس، وعضو البرلمان الأوروبى اسامى نايرب الجزائرى الأصل، حيث فى كتابه االإمبراطورية فى مواجهة التنوع«، راح يسأل: هل انتشار العولمة الليبرالية يعنى أمركة العالم؟ ويجيب عن السؤال بتصورات مغايرة، تبرز الحقيقة، التى تبدت فى إجابته: بأن العولمة الليبرالية مجرد تنويع لما يمكن تعريفه بأنه مسار تاريخى رحب لامتداد حضارة سوف تتزاحم فيه كل القوى الاقتصادية العالمية؛ إذ يرفض المؤلف الخلط بين مصطلح «الإمبراطورية» و«الإمبريالية»، انطلاقًا من أن الإمبراطورية هى نظام السوق الذى يهيمن على العالم، أما الإمبريالية فهى تسكنه عبر الهيمنة الهيكلية للولايات المتحدة، ويرى المؤلف أنها إمبراطورية لا مثيل لها فى التاريخ، فهى تحتوى الولايات المتحدة وتتجاوزها، إنها إمبراطورية سوق احتكارية، عالمية، ديمقراطية، تشتغل بالاقتصاد فى نطاق الإجماع، والولايات المتحدة فيها قوة مهيمنة وتتصرف تصرفًا إمبرياليًا، لتحقق الهيمنة التامة، لكن المؤلف يؤكد إنها لم تتوصل إلى هذه الهيمنة، وذلك لوجود قوى أخرى تنزع إلى التصدى لإرادة الهيمنة المطلقة، مع أنها تشترك انخراطًا فى قواعد الإمبراطورية العالمية للسوق، مثل أوروبا وغيرها، كما ينفى المؤلف الارتياب من الغد ويعلن تحديدًا: اإن الرهان على التنوع فى العالم، هو الوحيد الذى يمكنه أن يحافظ على المستقبل.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف