الأهرام
محمد شعير
زوارق لا تعبر النهر
لا أحب التفرقة بين الحكام والمحكومين.. أو النظر إليهم - فى الكتابة- باعتبارهم فريقين مختلفين.. يقفان على ضفتين متقابلتين.. إذ أن قناعتى دوما هى أن الحكامَ انعكاسٌ للشعوب.. وأن الشعوبَ تنتجُ بنفسِها حكامَها.. لكن لا بأس اليوم من هذا الاستثناء.. لنرسم معا ملامحَ صورةٍ للمشهد الراهن.. لعلنا نعرفُ لماذا لا تصل الرسائل!.

تبدو أمامى الصورة كالتالي: الدولة والشعب، يقف كل منهما على إحدى ضفتين، وبينهما يجرى نهر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى الوطن. كل من الطرفين يحاول - بصدق- أن يقترب من الآخر، بأن يوضح له مواقفه؛ معاناته ومخاوفه، وأن يرسل له الرسائل، لكن ما يحدث كثيرا هو أن زوارق الرسائل من الجانبين تفشل فى عبور النهر.. كيف؟.. ولماذا؟.. تعال نستكمل ملامح الصورة. من إحدى الضفتين.. ترسل الدولة الرسائل للشعب.. فتتحدث عن أهمية القرارات الاقتصادية التى اتخذت.. وتؤكد أنها سوف تؤثر بالإيجاب فى حياة المواطن.. حيث زادت بالفعل معدلات النمو وارتفع احتياطى النقد الأجنبى وتراجعت نسبة البطالة.. لكن المواطن فى الواقع لا يشعر بأثر كل هذا.. قالها لى صديق متسائلا - بألم وأمل معا- كأنه يريد مغالطة نفسه: «هل ترى أى مظهر للتحسن فى حياتنا حتى الآن؟!». رسائل أخري، محمولة على زوارق تطلق صفارات الإنذار، أرسلتها الدولة مؤخرا، كاشفة عن وصول تعداد السكان إلى 104 ملايين مواطن، وأننا زدنا خلال الثلاثين عاما الأخيرة بنسبة 96%، أى تضاعفنا تقريبا.. ومن الطبيعى أن تدمر هذه المعدلات فى الزيادة السكانية أى خطط للتنمية.. لكن هل ستصل الرسائل؟.. هل سيتوقف الناس - لا سيما البسطاء- عن الإنجاب للحفاظ على خطط التنمية؟!. «التنمية» .. تلك رسالة أخري.. حيث أعلنت الدولة عن استراتيجية التنمية المستدامة التى حملت اسم «رؤية مصر 2030».. وضمت قائمة طويلة بمشروعات جرى - أو يجري- تنفيذها.. وتم إطلاق موقع إلكترونى يحوى كل التفاصيل ويرد على مختلف الاستفسارات.. لكن لم يتفاعل الناس أيضا مع الاستراتيجية.. وسمعت بأذنى كلمات السخرية منها.. فلماذا لا تصل الرسائل؟.على الضفة الأخري.. يحاول الشعب إرسال رسائله أيضا للدولة.. عبر زوارق تطلق إشارات استغاثة متلاحقة؛ إشارات تتبعها أصوات أنين، يعلو شيئا فشيئا، معلنا العجز عن مسايرة الأعباء الاقتصادية التى أصبحت تتزايد بقوة، وتضغط بقسوة.. فكيف يكون الحل؟.. وما العمل؟.. ولكن يبدو أن الرسائل لا تصل.. فالدولة ترد بقولها إنها تعالج خللا مزمنا فى الاقتصاد.. ما كان يمكن أن يستمر للأبد.

«ليست تلك هى المسألة».. تردُّ رسائلُ الشعب بألم.. موضحة أن الاختلاف لم يعد بشأن تحليلات أو رؤي.. لكن المشكلة هى فى المعيشة ذاتها.. كيف يمضى اليوم؟!.. الغذاء.. الماء.. الكساء.. الكهرباء.. وغيرها وغيرها.. كيف يمكن توفيرها؟!.. كيف نُمسى مستورين؟!.. لسنا ضد الإصلاح.. بل نتمنى التقدم والازدهار.. لكن السؤال: «إلى متى يمكننا أن نظل صامدين؟!».. من خلال كل ما سبق.. يمكننى استكمال ملامح الصورة.. إنه منعطف طرق.. هنا يضيق النهر.. لكن الضيق - بالطبيعة- يقرّب بين الأطراف.. والضفاف.. أو هكذا ينبغي.. فلماذا إذن لا تعبر الزوارق؟.

سأخبرك.. رصدنا رائحة نفاذة لغاز شبه سام، اسمه «اليقين السياسي».. هو منتشر على الضفتين ومنفّر للزوارق من الجانبين.. وبسببه تثق الدولة - بحكم معلوماتها وأجهزتها- فى رؤيتها وحدها، ولا تهتم بغيرها.. وفى المقابل، وبسبب ذات الغاز، فإن الشعب - بحكم معاناته وضغوطه- يبنى نظرية سياسية حاسمة، مفادها أن الدولة تسعى بإجراءاتها إلى هدم البلد!.. فهل هذا أو ذاك يعقل؟!.

رصدنا أيضا شبورة كثيفة، اسمها «اللامعلوماتية».. فلا أحد يعرف إجابات قاطعة لكثير من الأسئلة.. ما الأسانيد والدراسات التى تقوم عليها الخطوات والإجراءات؟.. من هم المستشارون؟.. وما هى الرؤى والمشورات؟.. وهل كل المشورات واحدة أم أن هناك آخرين يقولون فلا يُسمعون؟!.. لا أحد يعرف.. ولا أحد أيضا يريد أن يجهد نفسه ليعرف.. شبورة «اللامعلوماتية» تعيق الرأى والرؤية.. لكنها مريحة للجميع.. فهى تتيح التمتع بإدمان استنشاق غاز االيقين السياسيب على الجانبين!. وكيف تعبر الزوارق النهر إن كانت غير مؤهلة أصلا للوصول؟.. نعم.. فالدولة ترسل رسائلها فى زوارق «الإعلام»، لكن الإعلام اليوم شارحٌ مفسر، ما هو بمراقب ناقد، والرؤية التى يقدمها حتى إن كانت صادقة تبقى رؤية واحدة.. فكيف تصل وتُقنع؟.. وفى المقابل، يرسل الشعب رسائله عبر زوارق إعلامه هو؛ «فيسبوك»، وهو حقا نوعٌ من الإعلام لكنه بلا قواعد أو ضوابط، سلاحه السخرية والهزل، ويختلط فيه المغرض بالصادق.. فكيف تصل الرسائل وتُغير؟!.

أخيرا.. قبل أن أعطى ظهرى للصورة، هأنذا ألمح رسالة قصيرة، على متن زورق صغير، نجح أخيرا فى العبور.. مضمون الرسالة يقول: إنه منعطف طرق.. هنا يضيق النهر.. والضيق - بالضرورة- يقرّب بين الأطراف.. والضفاف.. لذا فلا مفر.. لا بد أن ينصت الكلُّ للكل.. لا بد أن نفكر معا.. أن نتغير.. لعل زوارقنا تنجح يوما فى أن تعبر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف