جمال سلطان
ما الذي يقلق الناس من العاصمة الإدارية الجديدة ؟
من جديد يثير الرئيس عبد الفتاح السيسي الجدل في أثناء افتتاحه بعض المشروعات في العاصمة الإدارية الجديدة ، وبالمناسبة لا أعرف لماذا لا يطلقون عليها اسما محددا من الآن ، بدلا من هذه العبارة الإنشائية الطويلة نسبيا ، وأقترح أن يطلق عليها اسم "الماسة" على اسم الفندق الضخم الذي تم إنشاؤه فيها وكان أول شيء تم إنجازه بالكامل وأول شيء تم افتتاحه ، رغم اعتراضي على هذا "الترتيب" في الإنجاز ، لأن الفنادق يتم إنشاؤها لخدمة أعمال وحركة استثمارية وسياحية في المدن القائمة فعليا ، ولا يعقل أن يكون العكس هو الذي يحدث ، أن نبني فندقا ثم ننتظر لحين استكمال المشروعات والأعمال لكي يأتي سياح ويأتي زائرون ، ولكن كما يقول العرب : سبق السيف العزل ، واللي كان كان ، ولم يبق لنا سوى أن نحاول التفكير في الاستفادة من المشروع الذي تم إطلاقه ويستنزف مئات المليارات .
واضح من حديث الرئيس أن فكرة الأولويات ليست واضحة لديه بما يكفي أو ليست مقنعة ، لأنه اعتبر أن "كل الأعمال أولويات" ، وهذا مناقض لألف باء الفكر الاقتصادي أو الإداري أو حتى السياسي ، كما أن بعض ما قاله في هذا اللقاء حير الناس ، خاصة عندما قال للوزراء : لا تشغلوا بالكم بأي تكاليف ، وهذا كلام يصعب جمعه مع تصريحاته السابقة بأننا بلد "فقير قوي قوي قوي" وأنه كرئيس للجمهورية لا يجد المال الذي يتيح له تحسين معيشة المواطن أو تحسين راتبه ، والحقيقة أني لاحظت من متابعة خطابات السيسي السابقة أن العاطفة تكون غالبة عليها ، وينطلق لسانه بشكل عفوي وحماسي في تلك اللحظة التي يتكلم فيها ، مهما كان الكلام غير دقيق أو غير متسق مع ما سبقه من تصريحات .
وفكرة إنشاء عاصمة إدارية جديدة في حد ذاتها هي فكرة أقرب للعاطفة والحماسة منها إلى التخطيط العلمي والاقتصادي ، خاصة في ظروف مصر الحالية ، ومثل هذه الخطوة كان يفترض أن يجري بشأنها حوار وطني وحوار علمي عالي المستوى بين خبراء مصريين وأجانب ، لدراسة الجدوى واختيار الموقع ومعرفة الاحتياج الحقيقي في العمارة والتخطيط ، ولكن الذي حدث أن الفكرة ظهرت فجأة وتم الشروع في تنفيذها فجأة ، مثل تفريعة قناة السويس بالضبط ، والتي قال الرئيس بعد ذلك أنه تعجل في إنجازها لرفع الروح المعنوية للشعب ، كما أنه يقلقني جدا الحديث بالأحلام المستقبلية الذي يستخدمه السيسي كثيرا ويبدو أن بعض الوزراء أصبحوا يقلدونه فيه ، مثل أن ما نفعله سيتكلم عنه التاريخ ، وأننا نبني حضارة جديدة ، وبكرة تشوفوا ، هذا النوع من الأحاديث لا مجال له في "الالتزام السياسي" للمسئول تجاه الناس ، لا مجال للحديث عن الغيبيات والأماني في "العقد الدستوري" بين السلطة والشعب .
المشكلة الآن أن مصر لا تملك ترف إهدار أي أموال في أي موقع غير ضروري وملح وعاجل ، ونحن نعاني من تقلص الحركة التجارية والصناعية والزراعية والسياحية ، وهي حركة الإنتاج الحقيقية التي تولد أموالا وتجذب استثمارات وتصنع فرص عمل بالملايين ، وكانت هي الأولى بضخ المال وبالإصلاح العاجل ، بدلا من "تجميد" ثروة ضخمة في العقار ، خاصة وأن القاهرة لا تعاني ـ عمليا ـ من فقر عقاري ، فالتقارير الرسمية تتحدث عن عشرات الآلاف من العقارات غير مستخدمة ، كما أن القاهرة متخمة بالعشرات من الفنادق الكبيرة الفخمة التي تعاني من الفراغ وقلة الإشغالات ، كما أني لم أفهم انشغال قيادة سياسية وحكومة بأن تبشر الناس بأنها ستبني مسجدا كبيرا وكنيسة ضخمة في العاصمة الإدارية الجديدة ، الشعب لا يحلم بالمسجد الضخم والكنيسة الضخمة ، الشعب ينتظر المصانع والمستشفيات والمدارس ومواصلات آدمية وتأمين مزلقانات السكك الحديدة لحماية أرواح ملايين المواطنين ، أما هذا "الغزل الطائفي" بالحديث عن المسجد والكنيسة فلا يعطي أي انطباع عن جدية وتخطيط علمي للنهوض بالوطن أو إصلاح معيشة ناسه .
مخاوف الناس الآن ، أن يكون إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة بهذا البذخ والإغداق المالي على التأمين والتجميل والحماية ، مؤشرا على أن الدولة بدأت تدير ظهرها للمدن القديمة ، والشعب "الآخر" ، خاصة وأن جميع مدن مصر بلا استثناء تعاني من تردي في البنية الأساسية وضعف الخدمات ومعاناة الناس في التعليم والصحة والسكن والمواصلات ، ومن الواضح أن هذا كله ليس في أولويات الحكومة حاليا ، هذا أمر مقلق ومخيف فعلا ، أن تكون مصر هي تلك النخبة المالية والسياسية وأدواتها وأجهزتها ومؤسساتها في العاصمة الجديدة ، وباقي الوطن هامش إنساني ، أو عبء سكاني ملقى خلف الظهر ، ويتم التخطيط لتقليل نسله ، وليس لتوفير حياة كريمة لهم ولأبنائهم .