الأخبار
محمد السيد عيد
الوصل والفصل - بمناسبة حرب أكتوبر
بعد نكسة يونيو 67 كنا ندخل الجيش ولا ندري متي سنخرج، وعن نفسي فقد قضيت خمسة أعوام مجنداً، بدأت في سبتمبر 69 وانتهت بعد النصر، في عام 74. ومن الذكريات التي لا أنساها أني في سبتمبر 1970 كنت أحضر فرقة بمدرسة التوجيه المعنوي، وقامت المدرسة بتوزيعنا علي الوحدات كتدريب عملي، وكان حظي أن أذهب إلي إحدي الفرق بصحراء قنا. وقنا في سبتمبر هي عذاب النار. أما صحراء قنا فحدث عنها ولا حرج. روي لي صديقي الدكتور فتحي عبد الفتاح رحمه الله أنها كانت معتقلاً قبل ذلك، وحين كان أحد المعتقلين يهرب تحت جنح الليل، ويبلغون المأمور بهروبه، فإن المأمور لا يهتم، بل يهز رأسه بغير اكتراث قائلاً : طيب، وفي الصباح يحضر طابور التمام كالعادة، ويتناول فطوره، ثم يخرج بالسيارة قبيل الظهيرة في الطريق المؤدي للمدينة فيجد المعتقل الهارب ملقي علي الطريق يتمني أن يعيدوا القبض عليه قبل أن تقتله الشمس الحارقة. هذه الصحراء التي لا يحتملها إنسان كانت مقراً لفرقة عسكرية في ذاك الوقت، تمركزت هناك لتمنع تقدم العدو لو فكر في التقدم من ناحية البحر الأحمر. وها نحن نذهب إليها في عز حر سبتمبر لنقوم بالتوجيه المعنوي لجنود هذه الفرقة.
حين وصلنا إلي الفرقة علمنا أن كل الأعمال تتوقف من الحادية عشرة صباحاً حتي الخامسة بعد الظهر لأن الحرارة في هذا الوقت لا تحتمل. وجلسنا بمجرد وصولنا في خيمة التوجيه المعنوي. فجأة صاح أحد الجنود : إثبت مكانك، وهوي بسجل غليظ كان أمامه علي شيء ما بجانبي، نظرت فوجدت عقرباً تحت السجل. قال لنا أحد الزملاء ضاحكاً إن الزواحف هنا من كل شكل ولون، وحذرنا من الحيات والطريشة، قال لنا إن الطريشة أصغر من الحية لكنها أخطر، لأنها تقفز نحو الشخص فلا تتركه إلا ميتاً. قلت في سري : الموت علينا حق. تعددت الأسباب والموت واحد.
في الليل ذهبت إلي الخيمة التي سأنام فيها، سمعت صوت ذئب يعوي، خفت. قاومت النوم، لكن التعب كان قد نال مني كل مبلغ، فنمت، في الصباح استيقظت فوجدت أن الذئب لم يأكلني.
وزعونا علي الوحدات. قلت لنفسي يجب ألا نستسلم لفكرة الخوف من الموت. الحياة يجب أن تنتصر. برقت في رأسي فكرة : لماذا لا أنشئ فرقة مسرحية للترفيه عن الجنود الذين يعيشون في هذه الظروف الصعبة ؟ طرحت الفكرة علي الضابط الذي يرأس مجموعتنا وكان اسمه عبد المحسن الغندور فتحمس لها. قال إنه كتب مسرحية وعرض عليّ أن أقدمها. أخذتها منه، قمت بتنقيحها بحيث تكون كوميديا فاقعة، وأعلنت عن الفرقة، فتقدم عدد من راغبي التمثيل، لكن المشكلة أن بعضهم كانوا أميين لا يقرأون ولا يكتبون. لم أهتم. قمت بتحفيظهم أدوارهم، وشاركت في التمثيل، وقمت بالإخراج، وبعد فترة من التدريبات صرنا مستعدين للعرض. أبلغ المسئولون قائد الفرقة فاستدعاني، وسألني عن المسرحية، وماذا نطلب كي نستطيع تقديمها. قلت له : نريد خشبة مسرح في أركانها الأربع أعمدة إنارة، وأن تغطي جوانب الخشبة بأي قماش متاح. طلب القائد ضابط الشئون الإدارية، وكلفه بإنشاء المسرح، ولم يكن هذا الضابط سوي الكابتن حمادة إمام لاعب الكرة المشهور.
أقاموا الخشبة أمام تبة متدرجة، وجلس الجنود أرضاً علي التبة، وحضر قائد الفرقة وبعض الضباط، وقدمنا العرض. كان الجنود يضحكون من قلوبهم، ويطلبون منا أن نعيد ما نقوله مرة أخري، وكأن أم كلثوم تغني. وقتها أحسست أن الحياة قد انتصرت.
بعد انتهاء العرض كان الشهر الذي قضيناه علي وشك الانتهاء، وفي الموعد المحدد عدنا، لكني لم أنس هؤلاء الرجال الذين كانوا يعيشون في صحراء قنا تحت نار الشمس لحماية الوطن.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف