تخيل أنك تتصدي لتنفيذ ضربة جزاء في الدقيقة 95 وهي التي تنهي 28 عاما من انتظار أمة تعشق كرة القدم بجنون. صلاح يمتلك أعصاباً من حديد! هذا ما كتبه جون بينيت معلق الـ BB» علي تويتر. وعند تكريم الرئيس السيسي لفريق المنتخب القومي توجه بالشكر الخاص لمحمد صلاح، وقال له: أنا باشكرك يا محمد. صلاح كان عليه ضغط شديد في الأربع دقائق الأخيرة، كان يعرف أن أنظار وقلوب 100 مليون مصري تتعلق بهذه الشوطة.
أما أنا شخصيا فلم أر عبقرية محمد صلاح في تلك اللحظة القدرية المكثفة فحسب، لكنها تجلت لحظة دخول هدف الكونغو في شباكنا. من يشاهد تعبيرات وجه محمد في تلك اللحظات سوف يشعر أنه أمام فيلم عالمي، ولقطة بمليون جنيه!
تلك العينان المليئتان بالحزن والأسي لانتهاء المباراة بالتعادل، وتراجع فرصة مصر في اللحاق بكأس العالم. ثم الصرخة المكتومة التي انفجرت بلا صوت لترسم ملامح مزقها الألم. ثوان معدودة استجمع خلالها نفسه، لنراه يشير للجمهور بقوة: اسمعونا هدير الهتاف لمصر والتشجيع لمنتخبها في تلك اللحظات الرهيبة.
من هو؟ وكيف تشكل ذلك الفرعون المصري ليصير هكذا؟ شخصية أهم ما يميزها الهدوء والحكمة في التصرف اللحظي، تحمل المسئولية بمقدرة عالية، ثبات انفعالي هائل، دفعني المشاهد التي سجلتها الكاميرات، وحفظها التاريخ لهذا الفرعون الشاب أن أعرف قصته.
إنه ابن مدينة بسيون بمحافظة الغربية، والده موظف بالإدارة الصحية ببسيون ومزارع الياسمين. ووالدته ربة منزل. اكتشفه رضا الملاح كشاف نادي مقاولون طنطا في "دوري المدارس" والتقط موهبته وعرض عليه الانضمام لنادي المقاولون.
رآه علي أبو جريشة نجم الإسماعيلي السابق، وريعو نجم الاتحاد السكندري فتبنوه عندما اكتشفوا موهبته الكروية الهائلة. ومن هنا بدأت رحلة صعود محمد صلاح. انضم لصفوف الناشئين بنادي المقاولون العرب، ومنها إلي نادي بازل السويسري كمحترف، ثم فيورنتينا الإيطالي، فنادي تشيلسي الإنجليزي، ثم نادي روما الإيطالي، ثم ليفربول الإنجليزي.
يقول والده: لم يكن سهلا علينا أنا وأمه، فقد دفعت الأسرة بالكامل ثمن موهبة محمد خاصة بعد انتقاله إلي نادي المقاولون بالقاهرة، كان يلعب في قطاع الناشئين، ويعود منتصف الليل بعد رحلة مواصلات وتدريب لمدة 12 ساعة من القاهرة لطنطا، ومن طنطا لبسيون، ومن بسيون لمنطقة التنظيم التي ننتظره بها أنا ووالدته، بعدها تبدأ رحلة سير علي الأقدام تستمر لأكثر من ساعة في الواحدة بعد منتصف الليل.
محمد لايزال حتي الآن يقضي إجازته السنوية في بلدته بسيون بين أهله وأحبابه، وغالبا ما تكون في شهر رمضان، مؤخرا أنشأ جمعية أهلية في بسيون لمساعدة المحتاجين والأسر محدودة الدخل، كما أسس معهداً دينياً.
هذه لمحات سريعة عن محمد صلاح، هذا الفرعون الذي خرج من ريف مصر، لأسرة من الطبقة المتوسطة، موهبة كبيرة أهداها لمصر »دوري المدارس» الذي لا أعرف إذا كان لايزال يؤدي دوره في اكتشاف كنوز مصر أم توقف كما تتوقف الأشياء الإيجابية الجميلة في بلادنا دون سبب واضح، أو منطقي.
يقيني أن "دوري المدارس" نموذج لآلية اكتشاف المواهب ليس فقط في مجال الرياضة، بل في الأدب، الفن، والعلم. كنزنا الحقيقي في البشر، فمتي نجعل الإنسان هو مشروعنا الأساسي في مصر؟ هناك آلاف من الأطفال والشباب الصغير في مدن وقري مصر يمكنهم أن يصبحوا محمد صلاح، وأحمد زويل، ومجدي يعقوب، وعمر خيرت، وشريف عرفة، وعادل إمام، عمرو دياب. مصر مليئة بالمواهب المدفونة تحت تراب التكاسل والإهمال لأهم عنصر من عناصر التقدم والنمو.
أعود إلي الأسطورة محمد صلاح وأقول لماذا لا يفكر أحد منتجينا في عمل فيلم سينمائي عن حياة محمد صلاح، أراها مليئة بالدراما، غنية بلحظات الكفاح والنجاح. الألم والأمل. الإيمان والفخر. إنه أيقونة الشباب ووجه ينطق بالإرادة وحب الوطن؟.