المصريون
جمال سلطان
السينما ضد الديكتاتور .. في وداع محمد راضي
رحل عن عالمنا أمس المخرج المصري الكبير محمد راضي ، والذي أجهده المرض في السنوات الأخيرة حتى اختفت أخباره تقريبا ، رغم أن هذا المخرج الرائع مثل علامة لا تنسى في تاريخ السينما المصرية بعدد من الأفلام الجريئة التي انحازت للوطن والحرية والعدالة ، وحذرت مبكرا من توريط الجيش في العمل السياسي وسيطرة الأجهزة الأمنية وسحق إرادة المواطن ، وكان هذا الفنان أحد القلائل الذين "تنبأوا" بمآلات الأمور في مصر وحذر منها منذ أكثر منذ أكثر من أربعين عاما .
يعتبر فيلمه "أبناء الصمت" هو الأشهر بالنسبة له ، وهو الفيلم الذي أرخ لبطولات ضباط ومجندين في قواتنا المسلحة في حرب الاستنزاف ، وقد أنتج الفيلم بعد حوالي عام واحد من نصر أكتوبر ، وقد سجل فيه التناقضات المجتمعية ، والتي نعاني من مثيلاتها حتى اليوم ، بين من يضحون بحياتهم ودمهم من أجل الوطن على الجبهة ، ومن يتاجرون بتلك التضحيات في الداخل ، من يقفون على الجبهة بين النار والخطر ومن يقفون في الفنادق والمكاتب المكيفة في العاصمة يرتعون في الفساد والنفاق السياسي وقضاء ساعات المتعة مع الراقصات والداعرات ، رصد محمد راضي في هذا الفيلم الفساد الصحفي والإعلامي بصورة مطابقة لما حدث ويحدث حتى الآن في مصر ، وكيف يتخذ البعض دفاعه عن الجيش والهتافات السياسية الجوفاء ستارا لفساده وانحرافه وانحطاطه الأخلاقي .
غير أن أهم وأخطر ما أخرجه الفنان الراحل محمد راضي كان فيلمه "وراء الشمس" والذي أنتج في عهد الرئيس الأسبق أنور السادات ، وكان يرصد فيه بتفصيل مذهل "دولة المخابرات" في نهايات حكم عبد الناصر ، وممارسات بعض الأجهزة العسكرية ، ومن الواضح أنه استفاد من المذكرات التي نشرت ومن ملفات القضايا والتحقيقات التي أعقبت النكسة ، فعرض بجرأة شديدة ، كيف سيطر ضباط المخابرات الحربية على "معيدة جامعية" شابة بعد أن قتلوا والدها القائد العسكري لأنه أصر على إجراء تحقيقات في الهزيمة قبل لحاقه بالجبهة ، وقيدت قضية مقتله ضد مجهول ، وكيف وظفوا المعيدة للتجسس على زملائها وأساتذتها وعلى النشاط الطلابي المعارض ، وكيف تعرضت تلك الفتاة للسيطرة باغتصابها وتصويرها ، وتم اعتقال شقيقها الذي كان شاهدا على الجريمة وانتهى به الأمر للجنون تحت التعذيب ، كما يروي الفيلم كيف تم تعذيب طلبة الجامعة المعتقلين في السجون لإرغامهم على الاعتراف بإنشاء تنظيم مسلح لقلب نظام الحكم ، وكيف مات بعضهم تحت التعذيب ثم يملي ضابط الجيش على الطبيب ما يجب أن يكتبه في تقريره "ضربة شمس" ، وكيف تقوم الأجهزة بتصفية معتقلين وقتلهم بالرصاص ثم تسجل الواقعة كحالة اشتباك أو محاولة هروب ، وكيف تقوم الأجهزة بالتجسس على بعضها البعض ، وتخترق بعضها البعض لفرض السيطرة وإثبات النفوذ ، وكيف يتم تلفيق الاتهامات للمعارضين بالتآمر على الوطن والعمل على قلب نظام الحكم مع "التحبيشة" النمطية باتهامهم بالخيانة والعمالة لقوى أجنبية ، ويحكي الفيلم كيف يتورط هؤلاء الضباط في الفساد المالي بتهريب أموال إلى حسابات لهم خارج البلاد عن طريق وسطاء من رجال أعمال فاسدين .
فيلم محمد راضي "وراء الشمس" تم منعه من العرض لسنوات طويلة ، رغم أنه جمع كوكبة من أشهر فناني عصره : رشدي أباظة وشكري سرحان ونادية لطفي ومحمود المليجي ، والطريف أن الفنان الشاب وقتها "محمد صبحي" مثل دور أحد الطلبة المعارضين والذين تم اعتقالهم في السجن الحربي وتعرضهم للتعذيب بمختلف أنواعه وانتهى الأمر بمقتله على يد ضابط الجيش بالرصاص وتسجيل الواقعة على أنها محاولة هروب ! ، وتم منع الفيلم من العرض رغم أنه كان في عهد السادات وليس عبد الناصر ، ولكن لأن "الدولة" هي الدولة ، والأدوات والأفكار ومناهج السيطرة يتم توارثها في أجيال الأجهزة رغم تغير النظم السياسية ، فقد خشي السادات ونظامه من ردات الفعل على نشر الفيلم وقياس وقائعه على ما يجري .
من يشاهد الفيلم الآن ستدهشه الإسقاطات التي حملها ، والرسالة الخطيرة التي حملها الفيلم مكتوبة في مشهد النهاية وهو يخاطب الشعب المصري قائلا : أيها السادة انتبهوا حتى لا تحدث هذه الجريمة مرة أخرى .
رحم الله محمد راضي ، فقد كان جريئا بهذا العمل ، ورائعا في تسجيل فساد وطغيان "دولة المخابرات" والأجهزة وخطورة توريط المؤسسة العسكرية وأجهزتها في الصراع السياسي أو في مواجهة الطلبة ، وأن الحرية عندما تغيب تغيب معها العدالة وكرامة الإنسان ، والحقيقة أن جرأة هذا الفيلم ما زالت عالية بمقاييس اللحظة الحالية ، ولا تجرؤ قناة مصرية على عرض هذا الفيلم الآن ، ولو في مناسبة رحيل صاحبه .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف