طه عبد العليم
ثورة أكتوبر الاشتراكية: المقدمات والتداعيات
لم تكن ثورة أكتوبر الاشتراكية فى روسيا مجرد انقلاب قاده حزب البلاشفة بزعامة لينين، وإن لم تخل من المؤامرة كما فى كل الثورات. ورغم سقوط النظام الاشتراكى فى روسيا وغيرها بعد 75 سنة جراء أسباب تناولت أهمها فى كتاب «انهيار الاتحاد السوفييتى وتأثيراته على الوطن العربى» الذى نشره مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية قبل 25 سنة، وكنت محرره ومؤلفا مشاركا بفصلين أولهما عن أسباب الانهيار. ودون ريب، فإن القراءة الموضوعية النقدية قصة صعود وسقوط الثورة واجبة للتعلم؛ لاستيعاب دروس التاريخ.
وليتذكر من نسى أن هذه الثورة الروسية ترتب عليها: بناء الاتحاد السوفييتى كقوة عظمى تواجه القوة العظمى الأمريكية فى نظام الثنائية القطبية بعد الحرب العالمية الثانية، وتقود المنظومة الاشتراكية العالمية فى مواجهة المنظومة الرأسمالية العالمية. ورغم هيمنته على البلدان التى حررها من الاحتلال النازى، واستمرار اخضاع البلدان التى ضمتها الامبرطورية الروسية القيصرية، فقد دعم الاتحاد السوفييتى السابق حركة التحرر الوطنى ضد الاستعمار الغربى، ودعم محاولات التنمية والتصنيع المستقل فى البلدان التى تحررت من نير الاحتلال. وأكتفى هنا بايجاز أهم مقدمات الثورة، لأتناول فى مقالات لاحقة- إن شاء الله- قصة الصعود ومؤشراته، ثم قصة السقوط وأسبابه، ثم تأثير ثورة أكتوبر الاشتراكية على مصر.
وأسجل، أولا، أن روسيا قد شهدت فى البداية اندلاع ثورة فبراير 1917، التى فجرتها مجازر الحرب العالمية الأولى والأزمة الاقتصادية الخانقة، وما تسببتا فيه من آلام غير محتملة للجنود والعمال والفلاحين. ومع نهاية سنة 1916 أغلقت عشرات المصانع أبوابها بسبب انعدام الوقود أو الكهرباء فتفاقمت البطالة والفقر، وكاد الدقيق ينعدم في أسواق بتروغراد. ولم يقد أى حزب ثورة فبراير، فبرغم أن البلاشفة، قادة ثورة أكتوبر الاشتراكية اللاحقة، تصدروا المراكز الأولى بين صفوف الحركة العمالية فى العاصمة عام 1914، فإن تأثيرهم تقلص، ليس فقط تحت تأثير القمع واحتداد المشاعر القومية فى بداية الحرب، وإنما أيضا رغبة العمال فى التقرب من الجنود والفلاحين الفقراء المنتخبين بالسوفييتات.
وقد حاول الديمقراطيون الدستوريون وغيرهم من ممثلي الرأسمالية الليبراليين الحفاظ بيأس على الحكم الملكى، لكنهم لم يجدوا كتيبة واحدة مستعدة لدعم القيصر؛ فسارعوا لتشكيل حكومة مؤقتة فى 2 مارس 1917. ولم يكن للحكومة المؤقتة، التى تكونت من الملكيين وكبار ملاك الأراضى ورجال الصناعة، أية قاعدة دعم فى العاصمة، حيث وضع العمال والجنود ثقتهم فى قادة الاشتراكيين المعتدلين، الذين يقودون سوفييت بتروغراد. وتعززت ازدواجية السلطة، حيث تعايشت السلطة السوفييتية، مع ما تبقى من سلطة الطبقة الحاكمة السابقة. واعتمد وجود الحكومة المؤقتة على دعم الإصلاحيين المسيطرين على اللجنة التنفيذية للسوفييت، والذين رفضوا المساس بالمصالح الأساسية للرأسماليين والإصلاح الزراعي وحقوق الأقليات القومية والحكم الملكى، وأيدوا مواصلة الحرب.
وثانيا، أن لينين، وقبل وصوله إلى بتروغراد فى 3 أبريل 1917، ألقى خطابا انقلابيا أعلن فيه أن أهداف الثورة الحالية اشتراكية، ورفع شعار كل السلطات للسوفييتات، ودافع فى (موضوعات نيسان/أبريل) عن فكرة أن المهام البرجوازية الديمقراطية- وأهمها الإصلاح الزراعى والقضاء على الأرستقراطية وتصفية بقايا الإقطاع وضمان حقوق القوميات- لا يمكن أن تتحقق إلا بإسقاط الحكومة المؤقتة، واستيلاء الطبقة العاملة على السلطة بالتحالف مع الفلاحين. ونجح في إعادة رسم برنامج حزب البلاشفة على هذا الأساس.
وكان البلاشفة لا يشكلون أغلبية أعضاء السوفييتات، فأوصى لينين بالتوجه للعمال والسوفييتات وشرح برنامج وأهداف الاشتراكية، وطالب بنشر الاتفاقات السرية المبرمة بين الحلفاء، والوقف الفورى للحرب، وتوقف اللجنة التنفيذية للسوفييتات عن دعم الحكومة المؤقتة، وأن تأخذ السلطة بين أيديها. ومع ارتفاع الأسعار ونقص الخبز وطول أمد الحرب بخسائرها الفادحة، وغياب أى رد فعل من جانب الحكومة المؤقتة وقادة السوفييتات، فقد العمال الصبر، وبدأ تأثير البلاشفة يتزايد. وفى مطلع مايو 1917 شكل قادة السوفييتات التوفيقيون حكومة ائتلافية مع أنصار الحكومة المؤقتة، فصار الأولون يتحملون مسئولية مباشرة فى سياسات الحكومة، بما فى ذلك مواصلة الحرب بعواقبها المريرة.
وثالثا، أن سخطا واسع النطاق أثاره إعلان الحكومة المؤقتة فى أول مايو عن رغبتها فى استمرار تعهداتها للحلفاء باستمرار الحرب ضد قوات المحور لحين انتصار روسيا. ووقعت الحكومة المؤقتة فى أزمة حين خرج عشرات الألوف من العمال والجنود فى بطرسبرغ والمدن الأخرى بمظاهرات بدعوة من السوفييتات رفعت شعارات البلاشفة: تسقط الحرب، وكل السلطة للسوفييتات. ثم اندلعت أزمة جديدة فى أول يوليو حين عززت أنباء شن الحكومة المؤقتة هجوما عسكريا على ألمانيا وانهيار الهجوم انتفاضة للعمال والجنود. واستجابة لنداء البلاشفة اجتاحت موجة من الإضرابات والمظاهرات موسكو وغيرها من المدن.
ثم توالت الأحداث. ففى 31 أغسطس اكتسح البلاشفة انتخابات السوفييتات، وفى سبتمبر وأكتوبر شارك أكثر من مليون عامل في الإضراب بأنحاء روسيا، وسيطر العمال على الإنتاج والتوزيع في العديد من المصانع. وفى 10 أكتوبر صوتت غالبية اللجنة المركزية للبلاشفة لقرار يدعو الى انتفاضة مسلحة، وفى ليلة 25 أكتوبر تمكنت قوات البلاشفة من الاستيلاء على المرافق الحكومية الرئيسية فى العاصمة الروسية. وأعلنت الحكومة الجديدة التى شكلها البلاشفة وقبضت على السلطة: خروج روسيا من الحرب العالمية، ورغبتها فى توقيع صلح منفردة مع ألمانيا، واصدرت مراسيم بمصادرة أراضى كبار الاقطاعيين ومصانع الرأسماليين، ووعدا- لم يتحقق قط- بحق شعوب الإمبراطورية الروسية فى الانفصال عنها. وفى 12 نوفمبر أجريت انتخابات البرلمان (الجمعية التأسيسية) في روسيا، ولم يحصل حزب البلاشفة على الأغلبية كما راهنوا.
وردا على رفض البرلمان إقرار مراسيم الحكومة البلشفية، تم حله بالقوة. وأصدر مجلس مفوضى الشعب، الذى أصبح أساسا للحكومة الجديدة، قرارات اعتقال شملت كل زعماء اعداء ومعارضى البلاشفة، وتشكلت لجان استثنائية لمكافحة الثورة المضادة مارست إرهابا جماعيا ضد جميع المشتبه بمعاداتهم للسلطة الجديدة. وصدرت مراسيم بإقرار استيلاء الفلاحين على الأراضى وتوزيعها فيما بينهم وتحكم السوفييتات فى المصانع، وتأميم جميع البنوك ومصادرة الحسابات المصرفية الخاصة، والتبرؤ من الديون الخارجية، ورفع الأجور مع خفض ساعات العمل. وكانت ديكتاتورية البروليتاريا والاشتراكية ستالينية الطراز، بإنجازاتها واخفاقاتها. وللحديث بقية.