د . أحمد عاطف
ثلاثينية معهد العالم العربى
يحتفل معهد العالم العربى بباريس هذه الأيام بعيد ميلاده الـ 30. و المعهد مؤسسة عريقة ذات مبنى رائع استطاع فى العقود الثلاثة الأخيرة ان يعمق الاهتمام بالعرب و الجوانب المختلفة من ثقافاتهم فى قلب عاصمة النور: باريس. وقد فتح المعهد أبوابه يوم 30 نوفمبر 2017، بعد فترة بناء لمبناه استغرقت ست سنوات، بعدما اتفقت 18 دولة عربية على اقامته ليكون مؤسسة تهدف الى تطوير معرفة العالم العربى وتنشيط القيام بمعارض وأنشطة عن فنونه المختلفة. كان الهدف فى البداية تنشيط الاهتمام باللغة العربية و التعمق فى القيم الروحية السائدة فى هذه المنطقة الثرية فى العالم باعتبارها مهد الاديان و موطن أعظم حضارات البشرية و أرض أهم الصراعات والاحداث فى تاريخ الحضور البشرى على الكوكب. وقصة انشاء المعهد تعود الى نهاية السبعينيات من القرن العشرين، عندما لاحظت الحكومة الفرنسية غياب كل شكل من أشكال تمثيل العالم العربى فى فرنسا بينما كان لفرنسا علاقات تاريخية قديمة مع عدد كبير من الدول التى تشكل العالم العربي. فمنذ سنة 1926 قامت الدولة الفرنسية ببناء جامع باريس الكبير، لكن كان هناك غياب لأى مؤسسة علمانية تسعى لإبراز قيمة الحضارة العربية ومعارفها وفنونها وجمالياتها. كانت هناك إرادة سياسية قوية لإقامة جسر بين الشرق والغرب أدت فى 28 فبراير 1980 إلى ظهور فكرة إنشاء معهد العالم العربى كمؤسسة تكون السلطة المعنوية فيها لمجلس إدارة يضم ممثلى كل الدول الأعضاء بالجامعة العربية وبتمويل من فرنسا والدول العربية. كان الرئيس فاليرى جيسكار ديستان أول من تخيل هذه المؤسسة رغبة بالتخفيف من حدة التوتر آنذاك ولإتاحة الفرصة لأشكال تعاون جديدة غداة الأزمة النفطية الأولى. أما الرئيس فرانسوا ميتران فسرعان ما زاد من حجم المشروع فى خريف 1981 بتخصيص موقع مميز له على ضفة نهر السين كان قطعة أرض مهملة تابعة لجامعة جوسيو. جرى تنظيم مسابقة للمواهب الشابة لتصميم بناء متميز فى قلب الحى اللاتينى فى باريس. ووقع الاختيار على جان نوفيل وبيير سوريا وجيلبير ليزين (كما استشير المهندس السعودى زيد زيدان). واختارت هذه المجموعة ترصيع واجهة المبنى بمشربيات حساسة للضوء. وقد حصل هذا المشروع المعمارى على جائزة الكونيا الفضية فى سنة 1988 وجائزة الآغا خان فى السنة التالية. وفى سنة 1987 جرى أخيرا افتتاح المبنى.
وسرعان ما احتل المعهد مكانة مهمة على الساحة الثقافية الباريسية مما أعطى ألقا جديدا للثقافة العربية فى فرنسا وأوروبا. وقد فرض المعهد نفسه كأداة ثقافية ودبلوماسية استثنائية فى خدمة العلاقات الفرنسية العربية. وقد حصل على «العلامة الثقافية الأوروبية 2014» فى حفل انعقد فى برلين فى 30 اكتوبر 2014.
وفى اطار احتفال المعهد بعيده الثلاثين يقدم معرضين كبيرين أولهما عن العلاقات بين الحضارة العربية الإسلامية وأفريقيا جنوب الصحراء والثانى منعقد الان عن مسيحيى الشرق لاثبات التعايش بين الأديان فى العالم ، ويأتى ذلك بعد معرض «الحج إلى مكة المكرمة» فى سنة 2014 الذى نجح نجاحا باهرا.
وقد أتاح معرض «مسيحيى الشرق» الفرصة لتأمل المكانة التى يشغلها الدين المسيحى فى الشرق، وكذلك التنوع الكبير فى الأشكال التى اتخذها، مما يتجلى في تعددية الكنائس والقديسين والممارسات الطقسية والتقاليد والأماكن. مع العلم أن هذه المسيحية الشرقية مازالت مجهولة إلى حد كبير. يحتوى المعرض على قطع أثرية توضح ثراء الكنائس فى العالم العربى مثل قطع الفسيفساء الآتية من الكنائس الأولى فى فلسطين والأردن وسوريا ورسوم وجوه الرهبان القبط من دير مصرى فى باويط وكتابات على الورق للراهب القبطى الشهير شنودة، مسلات وتذكارات من الحج مع صورالقديس مينا والقديس سمعان والقديسة تقلا، كؤوس وأطباق فضية من كنوز الكنائس السورية .. والكثير من القطع الأثرية المتميزة التي تلقى الضوء على المحيط الثقافى والسياسى الذى ولدت فيه المسيحية وتذكر بالأسس التاريخية والممارسات المعاصرة. ومن الشائعات التى تطول المعهد دائما بسبب مشكلة تمويل انشطة المعهد شائعة عن توجه لدى الحكومات الفرنسية المتعاقبة لفك الشراكة التى قام المعهد على أساسها، والقائمة على تقاسم الأعباء المالية، بحيث تتحمل فرنسا نسبة 60 فى المائة من التكاليف و 40 % للدول العربية. وتقول الأحاديث المتداولة فى بعض الأوساط إن فرنسا قد تتخذ قرارات لا ترضى الجانب العربي، الذى تراجعت قيمة التزاماته المالية حسب ما جاء فى مؤتمر صحفى عقده بوديس رئيس المعهد السابق إلى نسبة 10 فى المائة. وهناك من يعتقد أن فرنسا سوف تقوم بتغيير الطابع الراهن للمعهد، وتعطيه صبغة أخرى بحيث تلغى جانبه العربي، وتستعيض عنه ببعد آخر إسلامى فرنسي، أو متوسطى فرنسى وقد يتم إدماج إسرائيل فى عضويته. ويخمن البعض إن الصيغة المثلى اليوم هى إنشاء معهد أوروبى مع العالم الإسلامي، أو مع دول حوض البحر الأبيض المتوسط، بدلا من حصر القضية بين فرنسا والعرب.