.. تتحوّل يا رماد.. إلى بهجة وألوان/ .. واتحوّل أوطان/ إلى عصفور ح اتحوّل/.. واتحوّل إلى نور/.. نتحوّل نباتات/.. من نور انا باتحوّل.. إلى طائر شفاف..
من يقرأ هذه السطور يُخيّل إليه أنها أبيات مقطع شعرى كامل متكامل, بينما فى الواقع أنها سطور متفرقة تنتمى لعدة قصائد فى ديوان شاعر العامية الكبير محمد كشيك, الذى سمى كتابه ذلك الاسم الغامض الموحى: "وكأنى كنت من البشر"..
سطور توحى إليك بأن هذا الديوان الكبير الذى يضم نحو مائة قصيدة, إنما هو قصيدة واحدة.. بدأها صاحبها فى الطفولة, ومازال ينشدها ويواصلها, لا فى هذا السِّفْر الشعرى الضخم العَطِر (الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة العام الماضى) بل عبْر كل دواوينه منذ أن كان فى العشرين وإلى الآن.. قصيدة واحدة كتبها بألف شكل وشكل واستطاع فى كل مرة أن يدهشنا وأن يطربنا.. إنها أغنية الطفل المشدود إلى ما يتخلق من حوله من حياة؛ حيوات متنوعة هى كلها تجسدات شتّى لنفس روح الحياة الخضراء التى تسرى فى كل مظاهر الأرض الريفية من نبات وطير وأسماك فى النهر, وتسرى فى بدن الشاعر نفسه, فى عينه التى تلمع بالنشوة وفرحة الوجود, ويده التى تمتد للقطاف وقلبه الذى يعمره الإحساس بالأخوة بينه وبين ما حوله: من جمال ريفىّ عطرىّ, وذلك الدفء والقرب الحميم الذى يتميز به الحى الشعبى, خاصة فى مسقط رأسه فى حى الورّاق الذى كان فى منتصف القرن الماضى ريفاً وحضراً يحيط به النيل من كل اتجاه. يقول كشيك فى إحدى قصائد الديوان, بعنوان "زمان": وكنت سبحان الخلّاق/ شجر على الشاطئ ونخيل/ وطفل من أهل الوراق/ ساكن فى شط مالوهش مثيل/ وكنت إنس مخاوى وجان/ وقوقعة وشعاب مرجان/ وكنت تسبيح الكروان/ ويمام... ما بيبطلش هديل/..
دون تفلسف ولا نظريات مجردة يخاطبنا وجدان الشاعر وصياغاته بما يسميه بعض المتصوفة وحدة الوجود؛ فذلك التآخى الذى أحسه منذ طفولته مع مظاهر وحالات الحياة المبهجة الوديعة فى الريف, إذا مددناه على استقامته خطوة جديدة واحدة, يقود الشاعر – الطفل حتى بعد أن تخطى الستين - إلى الفناء والذوبان والتماهى والتوحد من بعد التواصل والأخوة, فيصير هو ما يحيط به وما يحبه من حياة خضراء.. ولأنها روح واحدة ومتعددة فى نفس الآن, فإنه – بمنطق الشعر – من السهل على الشاعر أن يتحول من صورة لأخرى من صور تلك الحياة الجميلة الوديعة: النبات والطير والنور.. والأرض التى حوت كل ذلك؛ الوطن الذى يذوب محمد كشيك ويفنى فى حبه, خصوصاً فى حى الوراق, ومظاهر الحياة فى الحى الشعبى:
فى كل صباح/ ينادى الضىّ يا فتاح/ يصوصو صوت/ وينقر قشرته الكتكوت/ بنص جناح/ تروح م القلب أى جراح/ فى كل صباح/ تطل الشمس حلوة تقول/ بخفة دمها المعسول/ ينادى بتاع بليلة وفول/ يقوم بلبل على الأغصان..
ذلك البلبل على أغصان شعر العامية المصرية مازال يطربنا منذ سبعينيات القرن الماضى وإلى هذه اللحظة, ولا يفقد شعره الدهشة والبراءة والقدرة على الإدهاش والاندهاش – أى لم يفقد غناؤه البكارة والطفولة:
طلع الصبح يهمهم/ وبينده لى: يا عم/ النخلات فى العالى/ وبيحْجِل برعَم/ جاية سبايط موز/ والمشمش تمتم/ بكلام حلو جميل/ فى الأنوار يا سلام/ يعشق بعضه يمام/ وتناغى الزغاليل/..
وفى قصيدته "بساطة" يقول:
باصحا الصبح سعيد/ لما يجينى بريد/ من زهر الأوركيد/ نفسى ف لمسة إيد/ نفسى ف إيه ياولاد؟/ أبقى زهور عبّاد/ وابقى زهور تتلاقى/ بقلوب فيها براءة/ نفسى ف أى علاقة/ تربط بينى وبين/ أزهار الياسمين..
هذه الأمنية تحققت من أول ديوان صدر للشاعر.. فأريج الزهر يتضوع من شعر وقلب محمد كشيك.