علاء خالد
البيت الذي تسكنه الغوريلا
أسكن في بيت له أسوار عالية، تحوطه أشجار الجنهمية من كل جانب، وتخرج منه شجرة كافور يبلغ طولها على الأقل عشرين مترا تصل لبلكونات الأدوار العليا لعمارة الجيران حديثة الإنشاء. لاتظهر للخارج أضواء الحياة بداخل البيت، بسبب السور العالي الذي يحوطه، وأيضا بسبب سور الأشجار والنباتات المتسلقة التى تغطي جدرانه. من الخارج يظهر كأنه بيت مولود من رحم إحدى الغابات الاستوائية، تلك البيوت التى يتشارك فيها الإنسان، بعدالة، مع الطبيعة التى تحوطه: الشجر والهواء والسماء والحيوانات، والصمت. لا يصدر عن البيت أي صوت سوى أصوات الكلاب التي تنبح عند اقتراب أحدهم من الباب الخارجي، أو عند عبور رتل من الكلاب الضالة في طريقه اليومي لحي آخر بحثا عن مصادر الغذاء. وأيضا تصدر منه أصوات البيانو، مثل فيلم "رسايل البحر"، التي جعلت البطل أسيرا لهذا الصوت التي لايرى صاحبته، والذي سيتدخل، الصوت، فى تقرير مصيره فى الحب والحياة. ربما جزء من الحب والكراهية ينشأ من الغموض الذي يحوط أي شيء، خارجنا وداخلنا، وصولا لأنفسنا نفسها، التي لا نعرف الكثير عنها، فنغطي جهلنا، أو قلة حيلتنا، بالحب والحماية، وأحيانا بالقسوة والذنب. هناك جاذبية ما يولَّدها الشيء الغامض، تجعلنا نخشاه ونريد أن نمتلكه أو ننال منه، حتى نفك شفرة هذا الغموض مؤقتا. وربما لا نفك الشفرة فنظل مستغرقين فى علاقات تجاذب لا نهائية وغير مفسرة مع هذا الغموض الذى يلبِسه الزمن رداء السحر. تحكي زوجتي، الذي يعود البيت لعائلتها، أن فى العهد القديم كانت هناك حدائق ومساحات خلاء وفيلات تحوط ببيتهم، إحداها كانت تحوي قرودا وغزلانًا وببغاوات كانت تتحدث معها كل صباح أثناء انتظارها لأتوبيس المدرسة. كان عدد سكان الحي قليلين، ومساحة الأرض والهواء والصمت التي يشغلها كل فرد كبيرة وعادلة وربما تزيد على حاجته، هذه الوفرة تحولت مع الوقت، في بعض الحالات، إلى شرنقة رحبة وشفافة في آن. بيت "عائلة فلان"، وأرض "عائلة فلان" وفيللا "عائلة فلان"، وعمارة "عائلة فلان"، ومحل "عائلة فلان". كلها ألقاب العائلات صنعت خريطة الحي ونقاط التجمع وسط صحراء كانت واسعة وبلا علامات فى بدايات الخمسينيات، زمن إنشاء البيت وربما الحي. ازداد منسوب غموض البيت، بعد تغير شكل الحي والشارع بأكمله وتم هدم فيلاته وبيوته الصامتة الصغيرة، وارتفاع منسوب ضوضائه، وتحوله إلى أحراش أسمنتية، وقدوم سكان جدد من طبقات وثقافات وأحياء مختلفة. كل هذا جعل البيت، الذي أسكن به، ذا الدورين والسطح؛ يقف وحيدا في غموضه وسط بنايات الشارع التقليدية التي تسكنها الطبقة المتوسطة المصرية بكل عشوائيتها وتنوعها الحاليين.
هذا الغموض القديم/ الحديث، الذى أحاط، بالبيت، نشَّط الرغبة عند تلاميذ المدرسة الابتدائية الحكومية، التى تقع في أول الشارع؛ فى اكتشافه، بل ومحاولة النيل منه، والاستيلاء عليه بنسج حكاية خيالية عنه. يقطع هؤلاء التلاميذ الشارع ذهابا وأيابا من حيهم البسيط الذى يتاخم حينا. يسكنون في بيوت كالخنادق يخرجون منها ويعودون إليها مسلحين بروح المحارب الذى يخرج لمهمة ثم يعود إلى مخبئه منتصرا أو مهزوما. ينامون جميعا في غرفة واحدة في انتظار العدو. عادة أثناء مرورهم أمام هذا "البيت الغامض"، الذي لا تتدلى منه أشجار فاكهة، سوى أشجار الجهنمية بأشواكها المشرعة ناحيتهم، يجمعون كل الطوب والزلط المتبقي من بناء العمارات حديثة الإنشاء، ويقذفون بها باب البيت بقوة. يوميا وطوال سنوات طويلة، يؤدون مهمة المحارب بإتقان، ولايفوت يوم إلا ونسمع صوت طلقات الطوب تدوي وتترك علاماتها البيضاء والحمراء على الباب الخشبي السميك. انتشرت الحكاية بين التلاميذ، بأن إحدى الغوريلات تعيش داخل البيت وسط هذا الغموض، وتناقلوها عبر أجيال وأجيال. من يتخرج من المدرسة ينقلها لمن يأتي بعده، ففي لحظة تغيير النوبتجية بين تلاميذ فترتي الصباحي والمسائي، ينهال الطوب على هذه الغوريلا النائمة بالداخل محاولة منهم في إيقاظها أو إيذائها بهذا الضجيج، بسبب هذا الصمت الذي ترفل وتعيش فيه وحدها. ربما هذه الأسطورة، أو الحكاية، هي ما تبقى في خيال الشارع من الزمن القديم وحتى الآن. ولكي تعيش وتستمر هذه الحكاية استدعى هذا الثمن الذى ندفعه يوميا، هناك دائما من سيدفع ثمن استمرار أي أسطورة أو حكاية، لأننا نتعايش مع هذه الغوريلا ونقتسم معها الصمت والهدوء الذي تعيش فيه، بل ونطعمها ونحنو عليها حتى تقدر على العيش طوال هذه العقود الطويلة التى تناقل فيها تلاميذ المدرسة حكاياتها. ربما هؤلاء التلاميذ يلقون تحيتهم اليومية لهذه الغوريلا النائمة التى لم يروها إلا في أفلام السينما وألعاب الجيم. وكما يحاربونها هناك يحاربونها هنا على أرض الواقع، كما يحاربون أي نظام حياة خارج هذا الخندق الذي يعيشون فيه. كل يوم أثناء لحظة تسليم النوبتجية بين تلاميذ الفترة الصباحبة والمسائية، أثناء خروجهم أو عودتهم لخنادقهم في حيهم البسيط، كل يوم نجمع حصيلة الطوب المقذوف على البيت، حصيلة التجاذب، الحب والكراهية، مع هذا الشيء الغامض.