جمال سلطان
المشكلة ليست في القوانين بل في من يطبقها
انشغل الناس هذا الأسبوع بالإعلان عن قانون جديد للمرور يعتمد نمطا إضافيا للمخالفات من خلال نقاط يتم خصمها من صاحب الرخصة ثم سحب الرخصة وإخضاعه لفترة تدريب لمدة أسبوع أو أسبوعين مع مضاعفة الغرامات المتنوعة ، والحقيقة أني لم أهتم كثيرا بتفاصيل ما ورد في القانون المشار إليه ، مع احترامي لأي جهد بذل فيه ، وذلك لقناعتي بأن مشكلتنا دائما ليست في القانون وإنما في طريقة تطبيقه ، وجدية تطبيقه ، ونزاهة تطبيقه ، وآليات المراقبة على تطبيقه ، وكفاءة القائم على تطبيقه ، وقانون المرور الجديد لن يكون أفضل من سابقه في تحسين أحوال المرور الفوضوية والعابثة في مصر ، لسبب بسيط جدا وبديهي جدا ، وهو أن القانون السابق لا يطبق أساسا حتى نعلق عليه شماعة الأزمة ، ولو كان القانون الحالي يطبق لما كنا بحاجة لقانون جديد ، ربما تعديلات طفيفة ، وكلنا يعرف أن القانون في بلادنا "مطاط" ، والقانون يستخدم للتلويح والاستخدام عند الحاجة وليس كقاعدة مضطردة ، ويستخدم بمزاج القائم عليه ولا يطبق على الجميع .
كل من قاد سيارة في مصر ، وخاصة سائقي سيارات الأجرة بمختلف أنواعها ، يعرف أن "القانون الموازي" هو الذي يدير أمور المرور في مصر ، القانون الذي توافق عليه السائقون وقطاع كبير من رجال المرور ، وليس القانون الذي صدق عليه رئيس الجمهورية ، وهذا سبب جوهري لانتشار فوضى الشارع ، كما أنه لا يوجد أي ضمانات للعدالة في تنفيذ القانون بما يسمح لرجل المرور بتحقيق أذى كبير لأي شخص لم يعجبه أو لم يرضيه ، هذا ناهيك عن أن السيارات الحكومية وأحيانا سيارات الشرطة نفسها ترتكب أوضح المخالفات أمام المارة بدون أي مراجعة أو مراقبة مما يعمق من إحساس المواطن بالفصل بين القانون وتطبيقه ، بل إن كثيرا من سيارات الشرطة لو أخضعت لشرط السلامة والمتانة لتم توقيع المخالفة القانونية المعروفة عليها ، ودع عنك "الفئات" المستثناة من تطبيق القانون ، والتي هي فوق القانون وأعلى من القانون .
أيضا هناك حالة استباحة لحقوق الغير في الطريق ، فالمخطئ والمصيب سواء ، والجاني والمجني عليه سواء ، وإذا استهتر أحدهم في الطريق أو كان يعبث بهاتفه ثم ضربك من خلف وأتلف لك من "الفوانيس" وغيرها ما يقدر بالآلاف لن تحصل منه على أي شيء ، ولن ينقذك القانون غالبا ، وستتعرض للمهانة والإرهاق العصبي والبدني إذا فكرت باتخاذ الإجراء القانوني لمنتهاه ، وفي النهاية ستكره نفسك أن لجأت إليه ، خاصة وأن القانون في بلادنا يهتم بحقوق الدولة والحكومة وضمان تحصيلها ولا يهتم بحقوق المواطن وضمانات تحصيلها ، ولا يوجد أي تأمين إجباري شامل لصالح الغير عند ترخيص السيارة ، كما هو معمول به في معظم دول العالم .
ولو أنك أتيت بالقانون السويسري أو القانون الأمريكي للمرور لتطبيقه في مصر فلن ينصلح حال المرور في البلد ، وسيبقى الحال على ما هو عليه ، لأن المشكلة ليست في "نص" القانون ، وإنما هي بالأساس في اختيار القائمين على تطبيقه وتنفيذه وضمانات الجدية والنزاهة والحياد في تطبيقه ، والحقيقة أن هذا الكلام يصح أن يقال على أي قانون في مصر ، وليس قانون المرور وحده ، المشكلة دائما في التطبيق ، بل هذا يصح أن يقال حتى عن الدستور نفسه ، فكل الديكتاتوريات الوحشية التي عرفها العالم الثالث كان لديها "نص" دستوري رائع ، ربما يضاهي الدستور الفرنسي أو الألماني ، ومع ذلك كان "التطبيق" لا صلة له بالدستور ولا بالقانون ولا بالإنسانية .
قبل حوالي خمسة عشر عاما ، كنت أشارك في مؤتمر فكري في مدينة "شيكاغو" الأمريكية ، حين فاجأني بعض الطلاب العرب الدارسين ـ مترعين من الضحك ـ بقصة منشورة في إحدى الصحف الأمريكية عن مراسل لهم في القاهرة ، كتب عن ملاحظاته على إطلاق الحكومة المصرية أسبوعا للنظام العام أسموه "أسبوع المرور" بحيث يكون نموذجا للانضباط المروري في الشارع ، وحاول المراسل أن يقرب صورة الشارع في القاهرة خلال أسبوع المرور من خيال القارئ الأمريكي ، فاختصر الأمر بقوله : مثلما تأتي هنا في أمريكا في أسبوع وتقول : كل من أراد أن يفعل شيئا في الشارع فليفعل" ! .
لا يمكنك فصل حال المرور في البلد عن حال البلد نفسه في مختلف المجالات الأخرى ، لن يكون هناك مرور منضبط في بلد عشوائي الثقافة والتفكير والتخطيط ، سياسيا واقتصاديا وصحيا وتعليميا ، وكل ما سيضيفه القانون الجديد للمرور هو اتساع مساحة الفساد المالي والإداري لا أكثر ، أما حال الشارع نفسه فسيبقى كما هو .