بعد انقسام دام لما يقرب من أحد عشر عاما نجحت مصر فى دفع حركتى فتح وحماس لتوقيع اتفاق القاهرة تحقيقا للمصالحة الداخلية التى تأخرت كثيرا، وكخطوة أولى رئيسية لإحياء عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية بعدما توارت فى خضم الصراعات الإقليمية التى تشهدها المنطقة، وهو إنجاز سياسى كبير يُحسب لها. وبموجب الاتفاق ستتمكن حكومة الوفاق برئاسة رامى الحمد الله، التى ستتسلم مهامها ديسمبر المقبل، من بسط سيادتها على قطاع غزة الواقع تحت إدارة وسيطرة حماس منذ 2007، أى بعد آخر انتخابات أجريت قبل ذلك بعام فازت فيها الحركة وأقامت حكومة أمر واقع أو حكومة ظل من خلال ما عُرف باللجنة الإدارية، التى تم حلها أخيرا، كذلك نصت بنوده، التى ستعالجها الجولات القادمة، على دمج الأجهزة الأمنية فى الضفة والقطاع، وتسليم المعابر الحدودية لحرس الرئاسة الفلسطينية، فضلا عن إعادة تسكين موظفى غزة الذين عينتهم حماس ويبلغون قرابة الخمسين ألف موظف، إلى جانب تشكيل حكومة وحدة وطنية، والتحضير لانتخابات تشريعية ورئاسية جديدة.
هذه القضايا كلها كانت موضوعا لجميع الاتفاقات التى سبق عقدها بين الجانبين بدءا من اتفاقية مكة التى رعتها السعودية (2007) وصولا إلى اتفاق الشاطئ (2014) الذى تم فى غزة ، إلا أنها تعثرت بسبب الانحيازات والتحالفات الإقليمية السابقة لقيادات حماس والتى وضعتها فى خندق إيران وسوريا وحزب الله، الممانعين لعملية السلام من حيث المبدأ، ثم قطر، التى أضحت من أهم داعمى وممولى الحركة بعد خلافها مع نظام بشار، بل واتخذت من الدوحة مقرا لكثير من اجتماعاتها وإقامة كوادرها فيها.
فى الآونة الأخيرة، طرأت معطيات كثيرة، دولية وإقليمية ومحلية، مهدت لتغيير مواقف الطرفين (فتح وحماس) وتخفيف الخصومة بينهما، فحماس تعانى عزلة على المستوى الدولى كونها مُدرجة على قوائم الإرهاب الأمريكية، كانت تعوضها دوما بتحالفاتها مع بعض القوى الاقليمية، التى تتنقل بينها، إلا أن تعرض قطر لمقاطعة الدول الخليجية الثلاث السعودية والإمارات والبحرين بالإضافة إلى مصر على خلفية اتهامها بدعم التنظيمات الإرهابية، أثر بلا شك على دورها المساند لحركة حماس من ناحية، ومن ناحية أخرى عانى القطاع تدهورا شديدا فى أحواله الاقتصادية والمعيشية بعد الاجراءات العقابية التى فرضتها السلطة الفلسطينية والمتعلقة بإمدادات الوقود والكهرباء وصرف الرواتب، كنوع من الضغط السياسى على حماس، والأكثر من ذلك هو توتر علاقات الأخيرة بمصر، أهم قوة إقليمية تعتمد عليها للإبقاء على معبر رفح مفتوحا، بسبب قضية الأنفاق التى تُستغل فى تهريب الأسلحة والعناصر الإرهابية إلى سيناء، فضلا عن علاقاتها الوثيقة بجماعة الإخوان.
وقد مهدت حماس لهذا التغيير بإصدارها أبريل الماضى وثيقة تعديل بعض نصوص ميثاقها الأساسي، الذى اعتمدته منذ تأسيسها أواخر الثمانينيات، لتؤكد رغبتها فى الانفتاح على العالم والغرب تحديدا، والقبول بدولة فلسطينية مؤقتة على حدود 1967 تكون عاصمتها القدس، واستقلال قرارها عن الجماعة باعتبارها حركة تحرر وطنى فلسطينية.
فى المقابل، لم يكن محمود عباس (أبومازن) رئيس السلطة، أقل حاجة من حماس إلى التغيير بعد الجمود الطويل الذى خيم على مفاوضات السلام منذ اتفاقية أوسلو(1993)، التى لم تؤد إلا إلى انسحاب جزئى من الضفة الغربية وهى المنطقة (أ) وبقيت المنطقتان (ب) و(ج) خاضعتين للاحتلال مع الاستمرار بشكل مطرد فى سياسة الاستيطان، وربما يرى فرصة الآن لاستكمال المفاوضات بعد ما أبدته الإدراة الأمريكية الجديدة لدونالد ترامب من رغبة فى الوصول إلى تسوية شاملة للصراع الفلسطينى الإسرائيلي.
هذه هى بعض الأسباب الموضوعية التى رجحت كفة المصالحة، ولكن تبقى هناك قضايا محورية ستفرض نفسها على المدى الأطول وتتطلب اهتماما خاصا فى مقدمتها، وضع الجناح المسلح لحماس -الذى لم يتطرق إليه اتفاق القاهرة - ويقدر بآلاف المقاتلين، وتعتبره الحركة خطا أحمر وسلاحا شرعيا للمقاومة لا يمكن المساس به وغير قابل للتفاوض، وهو نفس ما سبق أن أكدته فى وثيقتها المشار إليها كخيار إستراتيجى لها، مما دعا أبو مازن للتعبير صراحة عن خشيته أن تتحول حركة حماس إلى «حزب الله» آخر فى فلسطين، بمعنى أن تُخلصها حكومة الوحدة المزمع تشكيلها من أعباء حكم القطاع المعيشية دون أن تُفقدها قدرتها على الانفراد بقرارها المستقل، وهذا بالضبط هو نموذج حزب الله فى لبنان، الذى لم يتخل أبدا عن ميليشياته المسلحة جنبا إلى جنب مع جناحه السياسى ومشاركته فى الحكم، حتى تحول إلى الرقم الصعب فى معادلة السلطة وامتلك حق االفيتوب على أى قرار سياسى وتمكن من تعطيل الانتخابات الرئاسية هناك لأعوام.
هذه القضية بالذات ليست مجرد قضية فلسطينية داخلية، ولكنها ستكون المعيار الرئيسى للحكم على جدوى المصالحة دوليا، خاصة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ونفس الشيء ينطبق على مسألة الاعتراف بإسرائيل والقبول بالبرنامج السياسى للسلطة الفلسطينية كونه أساس التسوية السلمية وشرط لحاقها بأوسلو، وتبدو حماس إلى الآن متمسكة ببرنامجها الخاص وبعيدة عن هذا التوجه وما يرتبه من التزامات تعهدت بها السلطة الفلسطينية، وهذه قضية ثانية.
قضية ثالثة، وتتعلق بالانتخابات الرئاسية والتشريعية المؤجلة منذ 2006، وهنا تثار تساؤلات حول التنافس المعلن بين تيار القيادى السابق فى حركة فتح المنشق عليها والحليف الحالى لحماس محمد دحلان وبين تيار محمود عباس الممثل للسلطة الحالية، فالأول اكتسب شعبية فى غزة، كما أن لكل منهما تحالفاته الإقليمية ورهاناته التى تعزز من موقعه ونفوذه السياسي. فهل نتحدث هنا عن بديل؟ أم أن هناك مصالحة فرعية يجب أن تُجرى بين الطرفين، ومع من ستقف حماس؟
تبقى قضية التحالفات الإقليمية، صحيح أن دور مصر هو الحاكم والأساس فى الدفع بالمصالحة الفلسطينية وهى أيضا الوسيط أو الطرف الثالث فيها، ولكن ماذا سيكون مصير تحالفات السلطة الفلسطينية وحماس كل على حدة مع دول أخرى فى الإقليم ليست على علاقة جيدة بالقاهرة، مثل تركيا فى الحالة الأولى وقطر فى الثانية، التى حرص رئيس مكتبها السياسى إسماعيل هنية على إطلاع أمير دولة قطر على ما نص عليه اتفاق المصالحة فورتوقيعه، وهو ما يحمل فى طياته كثيرا من التناقضات.
لاشك أن طريق المصالحة مازال طويلا، وهو أمر متوقع، لكن المهم أن البداية قد حدثت.