الدستور
مصطفى عاطف
حوار مع رجل فقد ظله
«على بعد أمتار من تمثال سعد زغلول بمحطة الرمل بالإسكندرية، جلس الرجل الستينى على مقعده أمام المقهى ساعة الغروب يشرب الشاى ويدخن الشيشة.. بدا فى حالة من الاسترخاء وراح يتأمل المارة والسيارات. كان ينظر إلىّ بين الحين والآخر، وعيناه تريد ان تتكلم بشىء ما. فجأة اقترب منه شاب ومد يده إلى كوب الماء الموضوع بجوار الشاى على الصينية الفضية، شرب منها إلى ما يقرب من نصفها، ثم قام بطردها خارج فمه على حافة الرصيف بالقرب من المارة.

لم يحتاج الأمر إلى تحليل طويل، فقد بدا على الشاب أنه مهووس أو متأخر عقليًا، كان هذا الاستنتاج يظهر على تصرفات المارة حيال الأمر، لكن الغريب هو عدم وجود أى ردة فعل من جانب الرجل، بدا وكأنه جاء من عصر الحكماء، أكتفى بالابتسام، ثم استدار جهة اليمين حيث كنت جالسًا بالقرب منه وفى يدى كوبًا ساخنًا من الشاى، كنت أتأمل الموقف فى صمت، إلى أن تطلع الرجل إلىّ بود قائلا: يا بخته.... أهو المجنون ده أحسن حالًا من ناس كتير».
ابتسمت ابتسامة عابرة ثم صرفت نظرى بعيدًا، لكن الرجل عاود الالتفات بوجهه الودود إلى وقال:
- إنت عارف إن اللى زى ده (يقصد المجنون) عايش ملك.
- نظرت إليه فى ملامح تعجبية، ولم أنطق بكلمة.
فعاود الرجل وقال: إنت مش مصدقنى! طب إنتَ تقدر تعمل زيه كده؟!
بالطبع لا.. إحنا عندنا حسابات كتيرة معقدة لكل حاجة، لكن ده معندوش أى حسابات، بيعمل اللى هو عايزة فى الوقت اللى هو عايزه بالطريقة التى تيجى على باله، لكن إحنا حياتنا ضايعة فى حسابات لا تودى ولا تجيب.
إنت عارف، أنا بقضى وقت كبير من السنة فى اليونان، بشتغل وبروح واجى بالشورت، وأول ما أجى إسكندرية بشيل الشورت فى الدولاب والبس البنطلون، ويفضل الشورت كده مستتر لحد ما أسافر اليونان تانى.
- وحضرتك ليه بيتجى هنا طالما مبسوط أوى هناك؟
- الرجل: لأنى مقدرش أعيش برى بلدى، مقدرش أعيش خارج إسكندرية، فيها أحلى ذكرياتى. مقدرش أتأخر على زيارة مراتى. الله يرحمها بقى لها أكثر من 10 سنين، وماغابتش عنى لحظة. ماتت بجسدها لكنها عايشة فى وجدانى.
- الله يرحمها.
- الرجل: إنتَ عارف مفيش مكان فى إسكندرية إلا شاهد على وجودنا معاُ فى لحظة من اللحظات.
- وحضرتك عايش لوحدك دلوقتى؟
- آه... أولادى بيزورونى كل فترة. بس مش دى المشكلة. انت عارف إنها من ساعة ما ماتت مفيش حاجة ليها طعم. كل حاجة ناقصة حاجة، والحاجة دى هى وجودها. عشان كده أى حدث بيحصل فى حياتى بروح أحكى لها عليه.
يوم ما بنتنا نجحت رحت أفرحها، ويوم ما اتجوزت كمان رحت لها قبل الفرح، ولو عندى مشكلة مضايقانى بحكى لها بردو.
أنا تعبت أوى وأنا بربيهم من غيرها، ولكن لما بروح أزورها مش بحس بتعب، بالعكس بستريح خالص.
- للدرجة دى.. أنا أول مرة أسمع قصة حب بالشكل ده ؟!
فى هذه الأثناء امتدت يد سيدة لتضع مجموعة من حبات الفول السودانى على صينية الشاى طالبة منا المساعدة المادية.
دعونا الله لها، ثم استمر الرجل فى حديثه الذى يفيض بكم هائل من المشاعر المتضاربة.
كانت شايلة عنى كتير أوووى، وبعد ما ماتت عملت كل اللى كانت بتعمله، وقدرت قيمتها أكتر. الغريب يا ابنى إن كتير من الرجالة وأنا منهم، بنفضل نفكر فى الجوازة التانية، لكن لما تموت مراته، ممكن ميقدرش يعمل كده.
بيبقى مش شايف غير زوجته، ومش متخيل انه يمسك ايد واحدة تانية، وصعب انه يتعود على واحدة تانية وياخد عليها زى ما خد على مراته. مفيش حاجة تعوض سنين العشرة ابدًا.
- بس فى ناس كتير بتجوز تانى بعد وفاة زوجاتهم! حتى لما بيحصل بيبقى عشان يفضفض زى ما انا بعمل معاك دلوقتى. رغبة فى الونس والكلام والمساندة مش أكتر.
وهنا عادت السيدة تلتقط حبات الفول السودانى مرة أخرى، وفى هذه الثناء توقفت عن الكلام، ومددت ذراعى جانبًا فى الهواء، وحركت جسدى يمينًا ويسارًا كأنما أريح عضلاتى.
- الرجل: معلش صدعتك.
- خالص حضرتك... أنا سعيد بجلستى معك. وسعيد بالتعرف عليك، بس أنا نفسى أسأل حضرتك؟
- الرجل: اتفضل طبعًا..
- كيف كانت تساندك زوجتك؟
- ضحك الرجل بود، ثم جذب نفسًا عميقا من الشيشة ونفث الدخان الكثيف.
وكان رده: بالتقدير.. كانت تمنحنى جرعات كبيرة ومستمرة من التقدير.
دائمًا وأبدًا كنت أشعر بالتقدير معها، كانت مؤمنة بى، كانت توافقنى وتتقبلنى، وهذا كان كفيل انه يخلينى اراجع نفسى بإستمرار لأن انا كنت عنيد.
كانت حنونة، وهو ده سر جمالها، فالجمال الخالي من الحنان لا يصلح أن يكون أساسًا سليمًا أو قويًا فى اى علاقة زوجية. الى بيعتمدوا فى جوازهم على الجمال بس بيعيشوا فى واحة جرداء لا زرع فيها ولا ماء، دائمو الشكوي من العذاب الذي يعيشونه، ومن افتقادهم الحنان والعطاء، فجمال الحسناوات اللاتي اقترنوا بهن (لهذا السبب فقط) غالبًا مايكون دون أساس روحي وبلا تفاهم أو تواصل، لذلك فهو غير قادر علي العطاء، أو إغداق الحنان الذي يحتاجه الإنسان فى كل مرحلة عمرية أكثر من التي قبلها.
وهنا دخل شاب يحمل لوحًا من الفبر معلقًا عليه مجموعة من النظارات الشمسية يقوم بعرضها علينا، شكرناه، ثم عاد الرجل ليسحب نفسًا من الأرجيلة، محاولًا إخفاء دمعة مستترة خلف بعض الدخان.
- شعرت وكأن الوقت غير مناسب للكلام، فآثرت الصمت، إلى أن عاودنى الرجل بالشكر لإنصاتى له. ثم عرفنى بنفسه: أنا يوسف..مهندس بحرى.
- أنا...مصطفى.. باحث فى إدارة الأعمال وتطوير الذات.
- لا... إنت باحث فى الإنصات وتقدير الآخرين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف