التحرير
عمرو حسنى
ملابس الأرواح
يجب أن يكون واضحًا تمامًا لمن يقرأ هذه السطور أننى أناقش فقط فكرة ارتداء أرواح البشر للملابس، ولا أريد أن أتعرض مطلقًا لمناقشة فكرة وجود الروح ذاتها.
فالأرواح تظهر دائمًا فى الأفلام والأحلام ولمن يرونها فى البيوت المهجورة والطرقات المظلمة وهى ترتدى ملابس البشر. هذا واحد من المسلمات التى رسخت فى العقول منذ الأزل، وجعلت روح الإنسان تظهر مرتدية للملابس التى كانت تغطى جسده وقت وفاته!
فكرة احتفاظ الأرواح بالملابس دائمًا ما كانت تواجهنى بعلامة استفهام كبيرة منذ الطفولة: كيف تصنع الروح من ملابس المتوفى مادة أثيرية ترتديها فوق مادتها النورانية؟! كيف يحدث هذا؟ هل توجد لملابس المتوفى التى يموت وهو بداخلها أرواح يرتديها ويرحل بها إلى عالمه الجديد المجهول؟! هل هناك أرواح للجلابيب والفساتين والدروع؟ وهل تموت تلك الملابس بدورها لحظة موت من يرتدونها وتخرج منها أرواح قماشية تظل ملتصقة بأرواح الموتى لكى تستمر فى ستر عوراتهم؟!
ربما يبدل الراحلون ثياب وفاتهم ويرتدون ثيابًا أخرى ناصعة البياض لزوم الشغل والتدليل على العيش فى عالم الطهر والنقاء، لكننى لم أسمع عن شخص رأى روحًا عارية فى صحوته أو منامه إلا لممثلة إغراء راحلة تجردت من ملابسها كمارلين مونرو مثلاً، لكنها غالبًا ما تكون أحلامًا لها غرض جنسى ولا تنطبق عليها الشروط الصحيحة للرؤيا.
الماديون يجزمون أن البشر يرون الأرواح بالملابس لأنها كائنات وهمية لا وجود لها خارج عقولنا، ويؤكدون أنها تمثل فى حقيقة الأمر استدعاء لصور محفوظة فى الذاكرة. المؤمنون بالأديان يختلفون بالطبع مع ذلك المنطق، ولكنهم يعجزون عن التوصل إلى تفسير مقنع يدحض وجهة نظر الماديين.
أحد التصورات القليلة المختلفة فى تلك القضية هو التخريجة الفنية المسيحية التى تظهر فيها روح المتوفى المسيحى الصالح فى جداريات عصر النهضة على صورة ملائكية تختلف عن صورته البشرية، وهو يستر عورته بغلالة بيضاء، ويرفرف بأجنحة تنبت من ظهره، يغطيها ريش الطيور الأبيض، هائمًا فى الفردوس وهو يستمع إلى السيمفونيات التى ألفها موسيقيون عظماء مثل بيتهوفن وباخ لكى تستمتع بها أرواح المؤمنين فى الجنة.
عمومًا يمكننا أن نرى بوضوح أن الغرض من ملابس الأرواح فى كل الحالات على اختلافها هو إخفاء العورة، حتى وإن تغيرت صورة الروح بإضافات ملائكية من الأجنحة والهالات المضيئة تجعلها تختلف عن صورة المتوفى فى حياته الأرضية. السؤال هو: لماذا يستمر الإحساس بضرورة ستر العورة مع الروح بعد خروجها من الجسد؟! ربما لأن إخفاء العورة لا يحدث لإرضاء الأرواح، بل لإرضاء من يرونها.

لماذا إذن تنتقل مشاعر الخجل مع المتوفى إلى عالم آخر تختلف قوانينه عن عالمنا؟! ذلك الخجل البشرى الذى ألزم الفنان على مر العصور بضرورة إخفاء عورات تلك الكائنات الأثيرية بالقماش، رغم أن الخجل شعور أرضى لا يشترط أن يسرى على عالم الروح. لماذا ينتقل كل شىء مع المتوفى إلى العالم الآخر؟ حتى الجمال والقبح والعاهات الجسدية والصفات الأخلاقية غالبًا ما تلازم أرواح أصحابها وتلتصق بها. يحدث ذلك رغم إصرار كل الأدبيات الدينية على مر التاريخ، وعلى اختلاف الحضارات، على أن الجسد ما هو إلا وعاء مؤقت للروح لا أكثر ولا أقل. فما هى الضرورة التى تحتم انتقال ذلك الوعاء الأرضى المؤقت بكل تفاصيله التى اكتسبها خلال حياته مع الروح الخالدة إلى عالمها الجديد؟! لماذا تتجسد روح هولاكو لزوجته فى مخدعها بملابس نومه الحريرية بينما تتجسد لقادته وهى ترتدى دروعه الحربية؟ ولماذا تظهر أرواح من غرقوا فى حمامات السباحة لذويهم بملابسهم الكاملة، ولا تظهر لهم وهى ترتدى ملابس البحر؟ كل ما سبق مجرد تساؤلات فنية فى موضوع مجهول لا يمكن تناوله إلا بطريقة تستخدم الخيال أكثر من اعتمادها على استخدام المعلومات.
إبداع العقل أعقد وأرقى من أن يخضع للقوانين البشرية سابقة التجهيز، ويملك من التحرر والانطلاق ما يجعله يرفض الخضوع للتحريمات التى يتطوع لفرضها معدومو الخيال على الآخرين.
ارتداء الأرواح لملابس البشر ليس تراثًا دينيًّا سماويًّا، ولكنه تراث بشرى فرضته المحاذير الأخلاقية عندما استخدم الإنسان معايير الدنيا لكى تسرى على رؤيته لما لا تدركه الحواس.
هذه إعادة كتابة لرؤية طرحتها من قبل.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف