التحرير
سامح عيد
النسبية والتقدم
لم تكن نظرية آينشتين مجرد نظرية في الفيزياء، ولكنها قلبت العالم الغربي كله في فلسفة حياته الأساسية، وكانت أحد أسباب تقدمه، إن نظرية آينشتين في النسبية قد أعلنت انهيار اليقين بشكل عام، وهذا ما فتح المجال للتفكير من جديد في كل شيء، وأن كل شيء قابل للتغيير بما فيه الأفكار الأساسية عن الحياة وعن الأخلاق وعن المجتمع، وعن فكرة الفرد ككينونة خاصة منفردة، وعن رفع الوصاية لتكون الوصاية للقانون الذي يصنعه مجمل الأفراد وهو قابل للتغير دائما.
آينشتين لم يتخلَّ عن المطلق في المطلق، ولكنه جعل سرعة الضوء مطلقة وثابتة. الصراع الديني العلماني في العالم الغربي كان صراعا بين المطلق والنسبي، فكهنة الدين المسيحي في العصور الوسطى كانوا يميلون إلى المطلق من خلال ما يعتقدونه نصوصا دينية ثابتة أو تأويلات خاصة لكهنة سابقين أصبحت مطلقات، وهذا ما صنع الصراع المعروف بينهم وبين علماء الفلك جاليليو وبرونو وكوبرنيكوس، عندما تحدثوا عن أن الأرض ليست مسطحة ولكنها كروية، وأنها ليست ثابتة ولكنها تتحرك، وهذا ما دفع الكهنة الدينيين إلى هرطقتهم وتعذيبهم، ووصل الأمر إلى قتل برونو واعتذار جاليليو عن فكرته عن كروية الأرض، وللأسف فهناك شيوخ مسلمون ما زالوا يظنون أن الأرض ثابتة ومسطحة من خلال تأويلهم لنصوص دينية، من أمثلة "وإلى الأرض كيف سطحت"، أو قوله تعالى "والله جعل لكم الأرض بساطا" أو قوله تعالى "والأرض وما طحاها".
المشكلة أن كهنة الدين يرون أن زيادة المطلقات وزيادة الثوابت توسع من نفوذهم الديني وهيمنتهم على الحياة، ويقاومون بشدة أي محاولة لإخراجهم من المجال العام، أو نزع وصايتهم على المجال العام للحياة. المشكلة أن واقع الحياة نسبي ومتحرك وقائم على المواءمات اللحظية والآنية وغير قائم على أي ثابت. لم يكن حديثي عن النسبية إلا مقدمة للحديث عن السياسة، ولم يكن خروجنا على نظام الإخوان إلا من تخوفنا من فرض الوصاية الدينية وفرض المطلق على النسبي، والذي نراه طريقا مستقيما إلى التخلف والتراجع، وأن ممارسة جماعة لها تأويلات خاصة للدين ولنصوصه على الحياة العامة هو أمر ضد ما قمنا من أجل تحقيقه وهو دولة مدنية حديثة، أساسها المواطنة الكاملة وتكافؤ الفرص بين جميع مواطنيها.
المشكلة ليست المطلق الديني فقط، ولكن المطلق السياسي أيضا يمثل خطورة على مسار الدولة الحديثة، فأساس الدول المتقدمة هي الديمقراطية وهي الشورى بالمصطلح الديني وهي الحوار، وفي النهاية هناك مجرد ترجيح لقرار على قرار آخر بشكل نسبي، وهذا ما يجعل القرار محل اختبار عند تطبيقه وإمكانية التراجع أو التعديل قائمة.
اليوترن ضروري في الطرق الطويلة، من المحتمل أن يرى السائر على طريق ما بعد فترة أنه يسير في الطريق الخطأ، فمن الضروري وجود يوترن لتعديل الطريق والعودة إلى الخلف لسلوك طريق آخر.

المشكلة في موضوع العاصمة الإدارية الجديدة وغيرها من المواضيع ذات الطابع الاقتصادي السياسي، هو الشعور بأن المطبخ السياسي والاقتصادي الذي يدير الأمور غير مدرك لقضية النسبية والترجيح، من حقه طبعا أن يرجح وجهة نظر، ولكن عليه أن يقتنع أن هناك ربما عدة وجهات نظر أو على الأقل وجهتي نظر كل منهما لها وجاهتها، ومن حقهم اختيار وجهة نظر، على أساس أنها ترجيح وليست حقيقة مطلقة، وعندما تقتنع القيادة أنها مجرد وجهة نظر مرجحة لديه، فتكون محل اختبار، وبما أنها محل اختبار فهي تحتاج إلى معايير قياس نجاح أو فشل، ولخلق المعايير يجب توفر المعلومات الدقيقة والتفصيلية عن كل شيء، والأهداف الموضوعة وطريقة تحقيقها وتنفيذها والمواقيت الزمنية لتطبيق ذلك، والأضرار الجانبية لكل علاج، فقد أصبح ملزما لصناع الأدوية الآن كتابة الآثار الجانبية لكل دواء وعلاج، وكثيرا ما يمتنع المرضى عن تناول الدواء عند قراءة الأضرار الجانبية، لأن الضرر الأصلي ربما يكون أقل بالنسبة له من الضرر الجانبي. فربما مريض ما إذا رأى أن دواء ما سيؤثر على فحولته فربما يفضل أن يعيش خمس سنوات بفحولة كاملة أفضل من العيش عشر سنوات بفحولة ناقصة أو منعدمة. الإصرار أن مشروعا ما هو حقيقة مطلقة، يجعل من المحظور وضع معايير تقييم نجاح وفشل، عندما يكون من المحظور وضع معايير للتقييم، يكون من المحظور أيضا تقديم المعلومات، ويصبح الغموض هو سيد الموقف، وبالتالي يكون معيار النجاح والفشل هو الانطباع العام، والانطباع العام يصنعه الإعلام، لا تصنعه الحقائق الموضوعية على الأرض، فيكون صراعا بين إعلامين، إعلام موالٍ يحاول صنع انطباع عام إيجابي، وإعلام مناهض يحاول صنع انطباع عام سلبي، والجانبان بعيدان عن الموضوعية، وهو إغلاق لكل يوترن موجود في طريق طويل هناك احتمالية لكونه الطريق الخاطئ. نشأ صراع نظري بين الفقهاء المسلمين في عصورهم التنويرية حول الشورى، وقد اتفقوا على أنها ملزمة، بمعنى من الضروري أن يأخذ الأمير برأي أهل الحل والعقد، واختلفوا في إلزامية الشورى، بمعنى التزام الأمير برأي الأغلبية، أو ترجيح الأغلبية، فبعضهم رأى ضرورة التزامه وآخرين رأوا أنها غير ملزمة (بمعنى أن الشورى هل هي لازمة ملزمة أم لازمة غير ملزمة)، وهذا الحوار كان نظريا، لأن الخلفاء المسلمين كانوا في أغلبهم الأعم أنظمة ثيوقراطية أوتوقراطية، بمعنى أنها حكم ديني فردي، فربما أخذ أحدهم بالمشورة إذا رأى ذلك وليس ملزما، وفي النهاية ينفذ قراره أو ما يراه صائبا، وجعلوا الخروج عليه مجرما سياسيا ومحرما دينيا في نفس الوقت، وكان رفض البيعة لخليفة ما لقادة مدينة مبررا كافيا لهدم المدينة أو حرقها على من فيها بمباركة سياسية ودينية في نفس الوقت.
ولذلك فالمشكلة لديَّ ليست هي العاصمة الإدارية وغيرها من المدن أو أي مشروع كان، لأن أي خطأ قابل للتصويب وتقليل آثاره الجانبية، إذا كانت هناك قناعة بنسبية القرارات، أما مطلقة السياسة والاقتصاد حتى لو كان القرار الحالي صائبا، فمن الممكن أن تتخذ قرارات أخرى خاطئة وكارثية، ولذلك فالسلطوية وأحادية الفكر ستؤدي إلى فساد مطلق إن لم يكن على المدى القصير فعلى المدى المتوسط أو الطويل، لأن آلية التصويب والتراجع غيرموجودة، مصطلح السلطة المطلقة مفسدة مطلقة ما زال كلمة عبقرية سمعتها من الدكتور أحمد كمال أبو المجد -صبحه الله بالخير- ولا أعلم إن كان أول من قالها أم ناقلا لها.
القناعة بالمطلق الاقتصادي تجعل القائمين عليه في حالة تعصب وتوتر يدافعون عنه كالمدافعين عن المطلق الديني، وأي انتقاد أو انتقاص أو نقد هو طعن في الذات الاقتصادية، كأنه الطعن في الذات الإلهية، ويبدو أن قضايا الازدراء السياسي أصبحت تسبق قضايا الازدراء الديني.
لا أطالب السلطة بأن تراجع قراراتها، ولكني أطالبها بمراجعة نظرتها إلى تلك القرارات، وأنه قرار صواب يحتمل الخطأ، وهذا يفتح المجال لرؤيتين ووجهتي نظر، وأن يتبنى الإعلام نفس النظرية ويقدم دائما وجهتي نظر، بغير ذلك فمفسدة مطلقة.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف