المساء
محمد جبريل
من المحرر- الأزبكية.. والنبي دانيال
كان قرب مقهي متاتيا من سور الأزبكية.. والعكس صحيح ــ تأكيداً للصلة بين الكتاب وقرائه. لا أعرف متي بدأت ظاهرة السور. لكنه ـ في تصوري ـ مثل استجابة لبحث رواد متاتيا عن كتب للقراءة.
ربما كانت البداية في بائع متجول. مثل الشيخ إبراهيم بائع الكتب الضرير في الفيشاوي وما جاوره من مقاه ومحال حي الحسين. ومثل الباعة الذين يحملون رصَّات الكتب علي أيديهم. ويتنقلون بين المقاهي. يجدون فرصة الراحة في دعوة للفرجة. يأذن صاحب المقهي. فيضع البائع رصة الكتب علي طاولة المقهي. ويتنهد.
بالإضافة إلي سور الأزبكية. المعلم الأهم لبيع الكتب في القاهرة. فقد اعتدت التنقل بين أكثر من كشك. أو فرشة. لبيع الكتب الجديدة والقديمة: مدبولي في ميدان طلعت حرب. الفرشة الملاصقة لسور جروبي طلعت حرب. الكتب المصفوفة إلي جانب مدخل البناية الكبيرة بشارع قصر النيل. كشك دور النشر اللبنانية أسفل كازينو صفية حلمي بميدان الأوبرا.. وغيرها.. وعندما اختفي ذلك كله. لم يعد من الأيام الجميلة إلا الذكري.
بداية سور الأزبكية ـ كما تجمع الكثير من الروايات ـ في مطلع القرن الفائت.. السبب الأهم اقترابها من تجمعات المثقفين في مقهي متاتيا الذي كان يرتاده جمال الدين الأفغاني وتلامذته من مثقفي العصر. وفي مقاهي شارع محمد علي. والشوارع المتفرعة من ميدان الأوبرا. بالإضافة إلي جامع الأزهر. ومكتبات حي الحسين.
لا أغالي حين أقول إن المشكلات التي واجهها سور الأزبكية هي المشكلات نفسها التي واجهها سوق النبي دانيال بالإسكندرية. بل إن مشكلات الكتاب. أعني تسويقه. تتعدد في عموم القطر المصري. لكنها تصب في المعني الواحد. وهي الظروف القاسية التي يعانيها الكتاب في مصر. ليس علي مستوي القارئ الذي يطلبه. وإنما علي مستوي المسئول الذي يجد في الكتاب عيباً ينبغي مداراته.
لم أجد مقهي للمثقفين قريباً من النبي دانيال. مثلما كانت متاتيا قريبة من سور الأزبكية. تصور الصلة بين سوق النبي دانيال والمقهي يغيب. بحيث يلح السؤال عن البداية الحقيقية للسوق.
أذكر دكاناً أقرب في سعته إلي المخزن في مواجهة الباب الجانبي لمبني سنترال محطة الإسكندرية بضاعته ألوف الكتب. حديثة وقديمة. اشتريت منه طبعة الكتاب الذهبي لروايتي نجيب محفوظ "خان الخليلي" و"زقاق المدق". وثمة خردواتي خلف سينما "ستار" "الدورادو" خصص الواجهة لبيع. وإعارة الكتب القديمة. وإعادتها. قل ترددي عليه لإصراره أن يكسب ـ في الكتاب الواحد ـ ثلاثة أضعاف ثمنه!
كما أري فإن مكتبات الأكشاك والأرصفة والجدران ظاهرة جميلة في مدن العالم. لا مدينة. تقريباً ـ تخلو من تلك المكتبات. والناس يقفون أمامها. يشاهدون. يتصفحون الكتب. يدفعون قيمة ما اختاروه. ويمضون.
لأن النظافة في بلادنا بلغت حدها الأقصي. فلا ذرة تراب في الطريق. ولا ورقة تتطاير في الهواء. ولا ماء آسن يشكل بركاً. ولا بصاقا. ولا نفايات. فإن المسئولين يحرصون علي أن تظل النظافة في صورتها المثلي. فيزيلون أي أثر للكتاب. باعتباره ظاهرة مهينة تسيء إلي مظهر المدن المصرية.
إذا كانت مسئولية المجتمع توفير الطعام كغذاء للبطون. فإن مسئوليته كذلك أن يوفر الكتاب كغذاء للعقول. غذاء العقول ــ في تقديري ــ له السبق باعتبار أنه يقتصر علي التلقي. أما العقل فهو يتلقي ويعطي. يحاول توفير الطعام. مثلما يحاول تلبية احتياجات الإنسان الأخري. قيمة العقل هي المدخل. والقراءة هي أول ما دعت إليه الذات الإلهية. وكما تقول الآية الكريمة: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟
أتصور أن رئيس هيئة التنسيق الحضاري سافر إلي أكثر من مدينة أوروبية. وشاهد المكتبات في الميادين. وعلي جدران البنايات. وضفاف الأنهار. لذلك فإن صمته علي المعاملة القاسية التي يواجهها الكتاب في المدن المصرية تدينه شخصياً. كمواطن مثقف قبل أن يكون مسئولاً!
أخيراً فإنه بدلاً من أن نلقي السؤال: لماذا يختفي الكتاب؟.. فإن علينا أن نستبدل به السؤال لماذا لا نحرص علي وفرة أماكن بيع الكتاب؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف